«كنت شيخا في الشباب فلا عجب أن أكون شابا في الشيخوخة" هذه العبارة التي صاغها عباس العقاد، ساخرا من مقولة سن المعاش ، تؤكد أن التقاعد مسألة وهمية وأن بلوغ سن الستين والسبعين وحتى آخر نفس في العمر لا يعني تعطيل لدور الإنسان وعطائه في الحياة، فالعديد من المشاهير ظهرت شهرتهم في سن متقدمة تعدت الستين،والكثير من الأدباء والعلماء وضعوا خلاصة تجربتهم بعد هذا السن في مجالات مختلفة، ففي السياسة نجد ونستون تشرشل أحد أشهر السياسيين البريطانيين الذي لم يكن ناجحا فى دراسته بل رسب فى اختبارات الفصل السادس الابتدائي، ولكن بعد عمر الستين صار صاحب المعجزة لتصديه الجيش الألمانى بقيادة هتلر فى الحرب العالمية الثانية ثم كتب عن تلك الحرب وحاز على جائزة نوبل فى الأدب. وها هو بايدن يبدأ عمله رئيسا لأقوى دولة بالعالم في عمر الثمانية والسبعين!
وفي التجارة: كولونيل ساندرز صاحب سلسلة مطاعم "كنتاكي" الشهيرة، الذيأتقن الطهى في صباه وخدم فى الجيش وكان عامل فى الفحم على قطار بخارى مع ذلك كان يدرس القانون ومارس المحاماة ولكن فى كل ذلك لم يشعرأنه حقق نجاحا كبيرا، وبعد سن الستين اضطر للتقاعد من وظيفته وقرر أن يعود مرة أخرى لفن الطهى وأسس أول مطعم دجاج كنتاكى الذى تميز بالخلطة السحرية ثم انتشرت سلسلة هذه المطاعم فى جميع أنحاء العالم.
وفي الأدب جوزيه سارماجو الذي عمل فى الحدادة وبعد 40 عام بدأ فى العمل الوظيفى ثم محرر صحفى ولكن بعد طرده من عمله تفرغ للكتابة ثم نشر رواية "بالتزار وبليموندا" وحاز على جائزة نوبل فى الأدب عن روايته "العمى" بعد الستين.
على خلاف النظرة السلبية في مجتمعاتنا تجاه التقاعد التي حولته من (حسن الخاتمة)إلى (حزن الخاتمة) كما أسلفنا في المقال السابق فإن هناك نظرة إيجابية ترى أن الحياة تبدأ بعد الستين باعتبارها مرحلة الاستمتاع الشخصي بعد التخفف من المسئوليات والأعباء التي تتعلق بالوظيفة او الأسرة، بل يتعامل معها كثيرون على انها الفترة الرشد في العمر التي تجمع بين ثمار خبرات الحياة وصفاء الذهن وتجاوز الانفعالات العنيفة تجاه تقلبات الدنيا، فتصلح لبداية جديدة، ناهيك عن أن التقاعد مسألة نفسية، ولم يظهر في عمر البشرية إلا منذ عقود معدود.
فقد ظل الإنسان قديماً يعمل حتى يفقد قواه بفعل العجز أو المرض ولكن مع ظهور المجتمعات الصناعية كان من الضروري تطبيق مبدأ التقاعد لكبار السن لتحقيق التوازن بين شباب الموظفين وتجنب البطالة في الأجيال الأصغر سناً، والدليل على ذلك أن الذين يقومون بأعمال حرة مثل الأطباء والمحامين والكتاب والسياسيين والفنانين لا يمرون بتجربة التقاعد بل يمكنهم الاستمرار في العمل ما أمكن لهم ذلك.
وقد كان سن التقاعد قبل عام 1925 هو 70 سنة، ولا يزال حتى الآن في النرويج 72 سنة، وفي الدنمرك 67 سنة، وفي أمريكا 65 سنة، فضلا عن أن العطاء مسئولية إنسانية مستمر ما دام الانسان قادرا على العمل ، يؤكد ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم،: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”.وهوما يعني العمل حتى أخر لحظة في الحياة.
وعلى عكس النظرة التي تربط بين التقاعد والشعور بالقلق والإحباط من ثم الإصابة بالمرض، فإن هناك بحوث علمية تؤكد التأثير الصحي الإيجابي لهذه المرحلة، فقد خلصت دراسة أجرتها جامعة "توركو" الفنلندية إلى أن التقاعد يخلص الإنسان من مخاطر الإصابة بأمراض القلب وداء السكري والوفاة المبكرة. يبتعدون عن مشاغلهم ومشاكلهم المتعلقة بالعمل مما ينعكس إيجابيا على صحتهم .
ويرى كثيرون أن التقاعد فرصة للتخلص من الدوران في عجلة العمل،والعيش بسعادة بالإكثار من العبادات ومودة الأهل، وتعزيز الصداقات القديمة وممارسة الهوايات المؤجلة كالرياضة والقراءة، والإقبال على الحياة بصورة أكثر حيوية ،بل قد تجد نفسك بعد الستين (عيل ع المعاش) على حد وصف المبدع فؤاد حداد في قصيدته «خيال النور» بقوله: «الدنيا ساحر ما انتهاش... الدنيا حاضر ما مضى/ بعترت روحى فى الفضا/ على بال ما يرجع لى الصدى/ لِقيتنى عَيِّل ع المعاش!
التعليقات