المخاوف الذي تثيره تطبيقات الذكاء الاصطناعي لن تقتصر فقط على أخلاقيات البحث العلمي او تقويض بعض آليات الديمقراطية على النحو الذي إشرنا إليه في مقالنا السابق: (باحث لم تنجبه امرأة)، الذي تناول تداعيات استخدام تطبيق (تشات جي بي تي) كباحث مشارك في أحد البحوث العلمية، وإنما القلق الأكبر يمكن في ان التقنيات التكنولوجية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي قد تصبح مصدراً للقيم الإنسانية، يستمد منها الإنسان الأخلاقيات التي يتعامل بها مع قرنائه من بني البشر. فتصير فلسلفة الذكاء الاصطناعي هي مصدر القيم، ويصبح تطبيقاته مصدرا للتشريع.
هذه المخاوف عبرت عنه أكبر منظمة أممية للثقافة والعلوم، في ورقة بحثية نشرتها أودري أزولاي المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) التي وصفت الذكاء الاصطناعي بأنه الحدود الجديدة للإنسانية. وبمجرد عبور هذه الحدود، سيؤدي إلى شكل جديد من الحضارة الإنسانية.. لذا علينا أن نتأكد من تطويره من خلال نهج واعي قائم على القيم وحقوق الإنسان.
فهذه التطبيقات تثير قضايا أخلاقية كبرى، بدءا من مدى أمكانية التأكد من أنها لا تنتهك حقوق الإنسان الأساسية من الخصوصية وسرية البيانات، إلى حرية الاختيار وحرية الضمير، وكيف يمكننا ضمان عدم تكرار الصور النمطية الاجتماعية والثقافية في برامج الذكاء الاصطناعي، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتمييز بين الجنسين؟ وهل يمكن برمجة القيم، وبواسطة من؟ وكيف يمكننا ضمان المساءلة عندما تكون القرارات والإجراءات مؤتمتة بالكامل؟ أي عندما تتخذ تطبيقات الذكاء الاصطناعي هذه القرارات بشكل مستقل؟ وكيف يمكننا ضمان تطوير الذكاء الاصطناعي بطريقة شفافة بحيث يكون للمواطنين الذين تتأثر حياتهم به رأي في تطويره؟ ولا شك ان الإجابة عن هذه تتطلب أن نضع بشكل جماعي رؤية وخطة عمل إستراتيجية.
على المستوى العربي شغلت هذه القضية اهتمام عدد من الباحثين المعنيين بهذا المجال، منهم الدكتور إيهاب خليفة بمركز المستقبل للدراسات، الذي ابدى تخوفه من أن يصبح الذكاء الاصطناعي مصدراً للقيم،حيث تتبع مسيرة القيم الانسانية ووجد انه على مر العصور ظهرت قوة تفسيرية للأحداث ومصدر دائم للقيم.
وقد تغير هذا المصدر من الدين إلى الفلسفة ثم التاريخ وصولاً إلى الأيديولوجية، واختلف معه الشخص الذي لديه صلاحيات استخراج هذه القيم، من رجال الدين ثم الفلاسفة والمؤرخين إلى السياسيين، ولكن يبدو أن مصدر القيم الجديدة سيكون (الآلة)، وإذا حدث ذلك، فمن المحتمل أن يكون العلماء والمهندسون هم أكثر الأشخاص تأثيراً في المجتمعات؛ لأنهم الأقدر على فهم عقولها الصناعية، وهو ما يؤسس لمرحلة جديدة في هذا المجال،فإذا كان الوعي البشري يستمد قيمته من خبراته عبر مر التاريخ إلا أنه ولأول مرة قد يستمدها من وعي الآلة.
فالقوة التي تتميز بها النظام او التطبيق المعتمد على الذكاء الاصطناعي تفوق بالطبع قدرات البشر ومهاراتهم، فهو قادر على التعلم السريع المستمر، وتحصيل جميع أنواع المعارف والعلوم والآداب بصورة تفوق أي طاقة بشرية ممكنة، كما انه قادر على مشاركتها مع غيره من نظم الذكاء الاصطناعي الأخرى، لكل ذلك يتخوف د.خليفة من أن يصبح هذا النموذج تدريجياً، هو الأمثل للمعرفة لدى الإنسان، فالتقنيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي لا تخطئ، وتتذكر ما يعجز البشر عن تذكره، ، وتستطيع القيام بجميع المهام التي يقوم بها الإنسان وبصورة أكثر كفاءة منه، من هنا يبدأ البشر في الشك في قدراتهم وأفكارهم ومعلوماتهم، لكنهم لن يتشككوا أبداً في قدرة الذكاء الاصطناعي، فيتم ترقية هذا النظام الصناعي لكي يعلو على مرتبة البشر، ويصبح مصدر الحكمة الإنسانية والمعرفة ومنظومة القيم الحاكمة للمجتمع.
وعلى سبيل المثال إذا تعرض أحد الأفراد لمرض وشخّصه نظام الكتروني معتمد على الذكاء الاصطناعي، على أنه سرطان، سوف يبدأ الأطباء بالتعامل معه على أنه كذلك حتى لو أن لديهم من الدلائل ما يشير إلى العكس؛ وذلك لأن هناك ثقة مطلقة في هذا النظام تفوق الثقة في النفس البشرية، وتبدأ حينها مقولة "ما هو رأي النظام؟" في الانتشار بدلاً من مقولة "ما هو رأي الدين أو القانون أو حتى العلم؟"!!
( وللحديث بقية)
التعليقات