كنا نتصور أن اهم منجزات الثورة الرقمية أنها اعادت زمام الاتصال مرة أخرى إلى حوزة المواطن وانهت الحواجز التي وضعنها وسائل الاتصال الجماهيري، بين المرسل والمستقبل، فحينما ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي كان مصدر سعادة غالبية الناس، انها وفرت حق الاتصال للجميع وليس لمن استطاع اليه سبيلا، باعتبارها بديلا مفتوحا خاليا من العراقيل التي يضعها (حراس البوابات) أمام تدفق المعلومات عبر وسائل الإعلام الجماهرية كالصحف والراديو والتليفزيون. وصدقنا أننا أصبحنا بحق أمام صحافة المواطن، ولكن رويدا رويدا صار يتكشف لنا ان هذه الصورة ليست وردية على النحو الذي تخيلناه، وإنما هناك لاعبون أقوياء يمكنهم حرمانك من هذا الحقوق. مما يدعو للتساؤل: هل حقا تساهم شركات التكنلوجيا في دعم حقوق الإنسان أم تنتقص منها؟.
فقد رسخت شركات التكنولوجيا العملاقة السيطرة على القنوات الأساسية التي يعتمد عليها معظم العالم لممارسة حقوقهم عبر الإنترنت. حيث تسهّل مختلف المنصات التي لدى تلك الشركات - من بينها فيسبوك، إنستغرام، وبحث جوجل، ويوتيوب، واتساب - الطرق التي يبحث بها الأشخاص عن المعلومات وتداولها، والمشاركة في النقاش، والانخراط في المجتمع.
وتقدم عمالقة التكنولوجيا هذه الخدمات لمليارات الأشخاص دون فرض رسوم على المستخدمين. وبدلاً من ذلك، يدفع الأفراد مقابل الخدمات ببياناتهم الشخصية الحميمة، ويتم تعقبهم، بشكل مستمر، عبر الانترنت.
ومهما تكن قوتك او عدد متابعيك فإنك يمكن ان تفقد وسيلة التواصل في أي وقت، كما قد لا تستطيع إيجاد وسيلة اخرى بنفس الإمكانيات وهو ما حدث مع ترامب حينما كان رئيسا للوليات المتحدة، ويتابعه عشرات الملايين على تويتر حيث تم محاصرته، فقد اتفقت «تويتر»، و«فيسبوك»، و«إنستغرام»، و«أمازون»، و«يوتيوب»، و«جوجل»، و«آبل»، و«سناب - شات»، على منعه من استخدام تطبيقاتها. ليس هذا فحسب بل أن «أمازون»، كشركة مضيفة، شطبت خدمة «بارلر» (Parler)، التي أطلقها مواطنون منعهم «تويتر» و«فيسبوك»، لأنهم من مؤيدي ترمب.
القضية ليست في شخص الرئيس السابق ترمب نفسه، وإنما في المبدأ ذاته، بدليل أن زعماء المفوضية الأوروبية، والمستشارة الألمانية ميركل، والرئيس الفرنسي ماكرون،،أبدوا انزعاجهم من هذه المشكلة التي خلقتها «تويتر»، ليس فقط باستهداف أحد أهم أسس الديمقراطية كحرية التعبير، بل في مسألة الاحتكار الذي يناقض مبدأ حرية السوق. كما تفجر هذه المشكلة أيضا أسئلة حول مصدر السلطة التي تمتلكها هذه الشركات ومن منحها لها، وهو ما أشار اليه الكاتب الصحفي عادل درويش في مقال (تويتر وديكتاتورية التكنولوجيا) بصحيفة الشرق الأوسط ( 17 يناير) مستشهدا بأحد أهم مفكري اليسار الاشتراكي والسياسي العمالي الراحل توني بن (1925 - 2014) وأسئلته الشهيرة عن السلطة لدى شخص أو مؤسسة تتحكم في حياة ومصائر البشر في الأنظمة الديمقراطية، وهي: ما السلطات والصلاحيات التي بيدك؟ وما مصدر هذه الصلاحيات؟ ولمصلحة من تمارس هذه الصلاحيات؟ و ما الجهة التي تحاسبك؟ وكيف يمكن إزاحتك عن السلطة؟
وإذا حاولنا تطبيقها على أصحاب ومديري شركات التكنولوجيا الذين اتضح أنهم أقوى من الرؤساء والحكومات، لاحتكارهم المعلومات وسهولة انسيابها على الإنترنت .نجد انه بالنسبة للسؤال الأول، فإن (الدستور) يحدد الصلاحيات في أغلب دول العالم، «لكنها مطلقة بلا حدود» في حال شركات التكنولوجيا. أما الأسئلة من الثاني إلى الخامس، فإن إجابتها السياسية هي «الشعب» (ممثلاً في البرلمان)،ولكن في حال شركات التكنولوجيا تمارس سلطتها لمصلحة مالكيها وليس لمصلحة الشعب، الذي لم يمنحها صلاحيات، ولا يستطيع محاسبتها، ولا يمكنه إزاحتها عن السلطة في صناديق الاقتراع كحال الحكومة.
ومن ثم فإن شبكات التواصل الاجتماعي تشبه الهايدبارك في لندن التي تعد ركيزة ديمقراطية ومنبر للتعبير الحر، أما البوستات والتغريدات فهي مثل الخطب فيها، لذا فإن ممارستها دور الرقيب هو خرق للقانون الذي تحتمي بظله.
هذا القلق عبر عنه أيضا أكاديميون مشهورون منهم الأميركي فرنسيس فوكاياما صاحب نظيرة نهاية التاريخ المعروفة ، حيث شاركه باحثين آخرين هما باراك ريتشمان، وأشيش غويل لحث المشرعين بالولايات المتحدة على عرقلة هيمنة عمالقة التكنولوجيا هناك، في مقال مشترك نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، أخيراً، طالبوا فيه بالعمل الجاد على "إنهاء احتكار شركات التكنولوجيا الكبرى للمعلومات"، من اجل إنقاذ الديمقراطية من التكنولوجيا"
ولذلك لابد من تشريعات قوية لحماية البيانات والتنظيم الفعال لشركات التكنولوجيا الكبرى، لصون حقوق الإنسان من هذا المأزق.
فهل حان الوقت لاستعادة هذا الفضاء العام الحيوي للجميع بدلاً من ان نظل تحت سيطرة تلك الشركات العملاقة التي تتحكم فينا من نقطة بعيدة وراء المحيطات؟!
التعليقات