نشتاق أحيانًا إلى فسحة لا تُثقلها المطالب، ولا تُطاردها الأسئلة. فسحة لا يُستدعى فيها الصبر كواجبٍ ثقيل، ولا يُفرَض فيها التفاؤل كواجبٍ قسري، حيث يحق للإنسان أن ينحني لحزنه كما ينحني الغصن لوزن المطر، وأن يكشف ضعفه كما يكشف وجهه ملامحه دون خوف أو خجل.
هناك، في ذلك الحيّز النقي، لا يكون الانكسار عيبًا، ولا البكاء علامة هزيمة، بل طقسًا خفيًا يغسل الروح من غبار الأيام. هناك يصبح الحزن صلاة صامتة، ويصير الضعف شكلًا آخر من أشكال الشجاعة.
ليست الرغبة في هذا الملاذ هروبًا إلى الظل، ولا استسلامًا للوهن، بل توقًا إلى مواجهة أعمق: مواجهة مع الذات كما هي، عارية من التصنّع، بلا أقنعة ولا تبريرات. مواجهة تسمح للدمع أن يسيل بلا خوف من الحساب، وللقلب أن يصرخ بلا شعور بالذنب.
ذلك هو السفر الحقيقي: أن ترحل الروح عن مسرح الأدوار المفروضة، لتعود إلى أصلها الأول، إلى الطفولة التي لم تعرف الأقنعة، إلى الصفاء الذي لم تمسّه بعد خيبات العالم. إنها عودة إلى الحقيقة التي طمرتها التوقعات والأحمال والواجبات حتى كادت تختنق.
فالقوة ليست في ارتداء الدرع الدائم أمام الآخرين، ولا في الصمود المتصلب الذي ينهك الجسد ويشوّه الروح. القوة الحقيقية تكمن في الجرأة على خلع ذلك الدرع حين يثقلها الصدأ، وفي الاعتراف بأن الإنسان يحتاج إلى هدنة مع نفسه قبل أن يستكمل صراعه مع العالم.
ومن لم يجد فسحته الخاصة، تلك البقعة التي يلتقي فيها ذاته بصدق، سيظل هائمًا بين زحام الأدوار، يوزّع ملامح شتى على الناس، حتى يفقد صورته الأصلية. سيصحو يومًا فلا يعرف: أكان حقًا يعيش لنفسه، أم كان مجرد ظلّ يتنقّل بين التوقعات؟
الهروب إذن ليس ضعفًا، بل إنقاذ. إنقاذ لجوهر يوشك أن يتلاشى، ووفاء لذلك الكيان العميق الذي يرفض أن يموت مختنقًا في زحام الأدوار.
التعليقات