قاد "الكابتن ميلر" رجاله على الجبهة الأمامية لسنوات، وكان عليه ككل المحاربين الآخرين، أن يتبادل إطلاق النيران مع رجال آخرين.. لكنه لم يكن يعرف عن هؤلاء الرجال شيئا غير أنهم يرتدون سترة العدو، وهم بدورهم لم يعرفوا عنه شيئا سوى أنه يرتدي السترة المخالفة.. هكذا هي الحرب.
وفي إنزال "نورماندي" ينجو "ميلر" وقليل من رجاله بعد أن يبدون شجاعة نادرة وكفاءة قتالية.. لكن "ميلر" الذي كان يجاهد للحفاظ على عقله وسط الجنون كان يدرك أن الصدفة وحدها هي من أنقذته من الموت.. فالصدفة لا تفرق بين الشجعان والجبناء، ولا تمنح الأكفاء أي ميزة لا تمنحها لقليلي الحيلة.. هكذا هي الحرب.
الآن أصبح من حق "ميلر" ورجاله أن يعودوا للصفوف الخلفية تمهيدا للعودة للوطن. لقد واجهوا عبثية الحرب بأكثر مما تطالبهم به اللوائح المنطقية. أخيرا سيعود المحارب لبيته وأسرته، وسوف يحاول أن ينسى وجوه رجاله الذين قتلهم العدو، كما سيحاول أن ينسى هو وجوه الأعداء الذين قتلهم.
وبفعل الصدفة لا شيء آخر، كانت إمرأة إسمها "مسز رايان" قد أنجبت في مكان وزمان بعيدين أربعة ذكور. وعندما أصبح هؤلاء الأشقاء فتيانا، كان ساسة بلادهم الوقورين يعتبرون "هتلر" مهرجا سياسيا.. لكن لم يدم الأمر طويلا حتى ارتأى الساسة ضرورة إرسال الأشقاء "رايان"، الذين بلغوا الآن سن الجندية، ضمن عشرات الآلاف من الشبان لكي يدافعوا عن قيم الحرية وليخمدوا نارا لم يشعلوها.
ولأن الحرب لا تكترث للأمهات ولا لأسماء أبنائهن، تبتلع في قهقاتها المجنونة ثلاثة من أبناء السيدة "رايان"، بينما يبقى الرابع مفقودا.. وهنا يأتي دور الساسة الحكماء في إضفاء المعانى الجليلة على العبث المتهتك، فيصدرون الأوامر بضرورة العثور على الإبن الرابع وإعادته لأمه، وكأنه لو عاد ستتوقف الأم عن مساءلة العدم أين ذهب بأشقائه الثلاثة.
ويكون على "ميلر" ومن تبقى من رجاله أن يسلموا أنفسهم مرة ثانية للصدفة، عليهم التسلل خلف خطوط العدو اليائس للبحث عن شاب لا يستحق في نظرهم أن يعيش أكثر مما يستحق أي منهم، فكل من هؤلاء الرجال كانت له أم يعرفها وتعرفه، تماما كـ "رايان".
"سحقا لرايان"!.. هكذا كان رجال الكابتن "ميلر" يعلنون كلما سقط منهم واحد في مهمة البحث عن الجندي المحظوظ. يموت أحد المعترضين على المهمة برصاصة قناص بينما يحاول إنقاذ طفلة، ويصاب كذلك طبيب المجموعة الشاب المقتنع بأخلاقية المهمة في معركة مفاجئة ويحتضر مناديا أمه.
هكذا هي الحرب، لا تهم قناعات المرء كثيرا بقدر ما يهم أين يقف وقت إطلاق الرصاص، وعندما يقع أسير من العدو في يد المجموعة ينحاز الكابتن "ميلر" للرأي المطالب بإطلاق سراحه، معارضا أغلب الرجال الذين قرروا دفن الأسير حيا.
كان إطلاق سراح الأسير رأيُ المترجم الذي انضم للمجموعة حديثا ولم يشارك فعليا في القتال، كان المترجم يملك رفاهية التحدث عن الأخلاق الإنسانية.
لكن "ميلر" قرر ترك الأسير يرحل لا عن قناعة بحقه في الحياة، بل لرغبته في أن يحتفظ لنفسه ورجاله ببصيص من العقل. كان "ميلر" يدرك قدرة الحرب الطويلة على الذهاب بعقول الرجال.. متوالية رهيبة من الحزن والغضب والخوف والانتقام كفيلة بأن تبقي نفوسهم مريضة للأبد.. وهنا يعترف لهم "ميلر" أنه مدرس.
كان الرجال حائرين دائما في أمر "كابتنهم".. كان يبدو لهم أنه رجل لم يخلق إلا لخوض المعارك. يطبق الأوامر بصرامة، لا يسمح بأي نقاش أو جدل، لا يبدي أي نوع من التذمر تجاه أي مهمة. كانوا يظنون أنه رجل بلا قلب كقلوبهم، فهو لا يبدي حزنا أو فرحا أو حبا أو حتى كراهية. لكنه مع كل ذلك رجل لطيف، يلقي النكات اللاذعة ويسمح لهم بإبداء رأيهم ويناقشهم.
يخبر المدرس "ميلر" رجاله الراغبين في إعدام الأسير الأعزل أنه يشعر مع كل رصاصة يطلقها ومع كل رجل يُسقطه أنه يبتعد أكثر عن بيته وأسرته.. فهو مدرس وزوج وأب سيكون عليه لو عاد أن يواجه عيون تلاميذه وزوجته وأطفاله.
يريد "ميلر" عندما يعود لحياته أن يحمل على كتفيه أقل عدد من الجرائم. لا يريد أن يقتل إلا للضرورة.. يسعى للاحتفاظ بأقل قدر من الإنسانية يمكنه من أن يواصل حياته. كان يحاول أن يكون مستحقا للنجاة من الحرب بعدم الاستسلام لمنطقها.. وكان يود لرجاله أيضا أن يستحقوا النجاة.
وبالصدفة وحدها يعثر "ميلر" ورجاله على "رايان" المفقود.. يخبرونه بموت أشقائه الثلاثة وبأن عليه العودة لأمه.. لكن الجندي يرفض التخلي عن رفاقه في مهمتهم الانتحارية التي تتمثل في الدفاع عن جسر تحتاج دبابات العدو أن تعبر عليه.. هكذا هي الحرب، فكثيرا ما تنجح استراتيجيات القادة لأن الجنود أتخذوا من بعضهم البعض اشقاءً، فيكون لهذا أثر جانبي إسمه النصر.
ولأول مرة يجد "ميلر" ورجاله أن مهمتهم لها معنى وأن "رايان" قد يكون بالفعل مستحقا للنجاة.. ليس لأنه الإبن الوحيد الباقي لأمه، بل لأنه مثلهم تماما، يرفض التخلي عن رفاقه.
وتنضم مجموعة "ميلر" للكتيبة المدافعة عن الجسر ويصل الإمداد كعادته في الوقت المناسب بعد أن يموت كثير من الرجال. وقبل أن يموت "ميلر" يهمس في أذن "رايان" الذي يدين له بنجاته بوصية قصيرة.. "فلتستحق هذا"!
ويستوعب "رايان" الدرس جيدا، لو كان قد استحق النجاة فعليه الآن أن يستحق الحياة.. النجاة صدفة لكن الحياة قرار. يعيش "رايان" حياته دون أن يسمح لقيم الحرب بأن تسممها.. يقضي حياته في محاولة لجعل العالم مكانا أفضل كما يجدر بكل رجل عاقل.. تلك الحياة التي كان يحاول المدرس "ميلر" أن يستحقها لكنه بالصدفة مات.
التعليقات