لا تذكر وثائق دار المحفوظات شيئا عن ما كان "كارلو روزيتي" يشعر به تجاه الأرض الخربة التي اشتراها بمبلغ ضخم على تخوم حي الموسكي في منتصف القرن الثامن عشر، فالسجلات الرسمية لا تكترث بالتفتيش في نوايا الرجال، بل تكتفي بإضفاء الشرعية على أفعالهم.
ويتضح من السجلات أن التاجر روزيتي القادم من البندقية، تلك التي يصر أبناؤها على تسميتها بڨينيسيا، قد امتلك العديد من الأراضي والعقارات في القاهرة القديمة، وأنه كان رجلا متعدد الأنشطة.
لكن السجلات لا تذكر كيف استطاع "كارلو"، والذي اتخذ من حارة البنادقة بالموسكي سكنا ومستقرا، أن يصبح قنصلا للبنادقة في مصر. وهو منصب كان يعني في ذلك العصر أن من يحوزه يكون مسؤولا عن مصالح مواطنيه أمام السلطات الرسمية، كما يكون مسؤولا عن التزامهم بفضائل البلاد واحترام حكامها.
ويبدو من القليل المتاح عن "روزيتي" أنه كان جديرا بمنصبه. فهو لم يحظى فقط بثقة من وقعوا تحت رعايته، بل نال أيضا ثقة تجار القاهرة وصولا إلى علي بك الكبير، ذلك الرجل الذي لم تكن لتشغله أبدا أعباء تجارته المزدهرة عن طموحه في الاستقلال بمصر، ذاك الطموح الذي شاركه فيه عبر العصور المئات من المرتزقة، والذين قرر كتبة التاريخ أن يدعوهم بالملوك والسلاطين.
وقد أسفرت المشاورات بين علي بك الكبير وشريكه في التجارة "روزيتي"، الذي أصبح أيضا مستشاره المقرب، عن قبول المهمة التي كلفه بها السلطان العثماني، ألا وهي تسيير حملة للحجاز للإطاحة بشريف مكة وتعيين آخر، يراه السلطان المشهور بقبول الهدايا، أكثر كفاءة للمنصب.
ولكي يستطيع علي بك الكبير تمويل الحملة للأراضي المقدسة وجد نفسه مضطرا أن يفرض ضرائبا جديدة على المصريين. رغم أن السجلات تثبت أنه قد خصم مصاريف الحملة من الأموال المستحقة لخزينة السلطان.
وبعد أن نجح محمد بك أبو الدهب، ساعد علي بك الأيمن وتلميذه، في تحقيق مهمة السلطان، مُنح مكافأة طائلة تناسب إسمه، لكنها فيما يبدو لم تكن كافية لردعه عن خيانة أستاذه كما حدث لاحقا.
لكن المكافأة الأكبر كانت من نصيب "روزيتي" وشقيقه "بالثازار". لقد منحهما علي بك الكبير حق إقامة بيت تجاري في جدة، الميناء الأهم على سواحل البحر الأحمر.
كان روزيتي هو من لفت أنظار علي بك إلى أهمية السيطرة على البحر الأحمر لكل من يرغب في الاستقلال بمصر، كان روزريتي الأوروبي يدرك إلى أى مدى تتوق الدول الأوروبية إلى رفع الحظر الذي فرضه العثمانيون المسلمون على إبحار السفن "المسيحية" في البحر الأحمر فيما وراء جدة. فبينما كانت المصانع الناشئة في أوروبا تزأر طلبا للمواد الخام من الهند وافريقيا، كان العثمانيون يرفضون أن تدنس سفن عديمي الإيمان مسار الحجيج. يالها من ثروة ضائعة!
واستطاع التاجر البندقي اقناع علي بك، الذي كان قد تمكن تماما من السيطرة على الحجاز والشام، بإبرام بعض المعاهدات مع الدول الأوروبية، تسمح لهم بالإبحار في البحر الأحمر، ضاربين بأوامر السلطنة المشغولة بالحرب مع روسيا عرض الحائط. ولا يذكر د. جمال محمود مؤلف كتاب "كارلو روزيتي" شيئا بعد ذلك عن الرجل، لا نعرف إن كان قد غادر مصر أو مات فيها، كل ما نعرفه أنه قد كون ثروة طائلة لا تدري السجلات عن مصيرها شيئا.
لكن التاريخ يذكر أن مشروع علي بك الكبير قد فشل، وأن مصر عادت لحكم البكوات الخاضعين للآستانة. لكنه يذكر أيضا أن الدول الأوروبية لم تعد تستطيع الصبر على تحكم العثمانيين في طرق التجارة البحرية، فالمواد الخام يجب أن تتحرك من حقول الشرق لمصانع الغرب بأقل تكلفة وأسرع وقت. وكما صنعت الجغرافيا المشكلة، كان عليها أن تحلها.
لفتت مغامرة علي بك الكبير انتباه أوروبا إلى أن مفتاح الشرق الحقيقي لا يملكه السلطان الجالس على عرشه بالآستانة، وإنما يملكه من يجلس على ذلك المرفأ الصغير المسمى بالسويس، ومن يريد السويس عليه بالقاهرة.
كان على أوروبا أن تسير في نفس المسار متبعة خطى الاسكندر الأكبر. ولكي يصل إلى القاهرة كان على نابوليون، اسكندر العصور الحديثة، أن يطلق مدافعه الثقيلة على الاسكندرية.
وكان على المدينة التي كانت يوما عاصمة الدنيا وقبلتها التجارية أن تضع السيف بلا قيد ولا شرط. لقد باغتها العصرالحديث، بينما نسيت هي الماضي.
وما هي إلا سنوات قلائل، حتى أنتفض عوام القاهرة وسادتها الأشراف، ليسقطوا الوالي العثماني من على أريكة الحكم، ويقدمون أرض أجدادهم وأحفادهم على طبق من فضة لعثماني جديد، إسمه محمد علي. ذلك الرجل الذي لم يضاهي حرصه على احتكار التجارة، سوى ولعه بامتلاك المدافع.
التعليقات