مع أجواء الدفء الثقافي الذي نعيشه هذه الأيام ببدء فعاليات "معرض القاهرة الدولي للكاتب 2021م" في دورته (52)، تستدعى ذاكرتى ـ ككل عام ـ قصة تلك الفتاة التي أحبت القراءة والاطلاع منذ نعومة أظافرها، كما أنها كانت تعشق كتابة القصص، إذ بدأت تجربتها مع الكتابة في سن مبكرة. كانت طفولتها عادية وسعيدة، لكنها قاست كثيرًا في العشرينات من عمرها، ومع ذلك أبدعت وما زالت.
تلك الفتاة، هى الكاتبة "جي كي رولينج"، التي أبهرت غالبية شعوب العالم بالسلسلة القصصية الروائية الشهيرة "هاري بوتر". ولدت "جوان رولينج" عام 1965م، بمقاطعة "جلوسترشير" بـ "المملكة المتحدة" (بريطانيا)، وبعد انتهائها من الدراسة الثانوية؛ درست اللغة الفرنسة في جامعة "إكستر" بالإقليم الجنوبي الغربي، كما قضت قرابة العام بالعاصمة الفرنسية "باريس" كدارسة ميدانية قبل تخرجها. ومنذ ذلك الوقت؛ عملت في أماكن كثيرة، وكانت فترة عملها في "منظمة العفو الدولية" الأقرب لقلبها؛ كونها تنظم حملات ضد انتهاكات حقوق الإنسان.
شهد عام 1990م؛ باكورة فكرة كتاب "جى كى" الأول في أثناء رحلتها الطويلة بالقطار من مدينة "مانشستر" إلى "لندن"؛ إذ جسدت خلالها شخصيات قصتها، وبدأت بالكتابة. مع أواخر عام 1991م؛ ذهبت إلى "البرتغال" لتصبح معلمة للغة الإنجليزية في إحدى مدارسها، فتعرفت إلى زوجها الأول وأنجبت طفلتها الأولى "جيسيكا"، لكن هذه الزيجة لم تدُم طويلًا، وانفصلت عن زوجها بعد شجار أدى إلى طردها من المنزل، فلجأت للسفارة البريطانية ـ آنذاك.
ثم عادت "جى كى" أو "جوان" إلى "بريطانيا" هي وطفلتها، واستمرت الحياة، وحاولت استكمال كتابها الأول. وفي عام 2001م، تزوجت مرة أخرى وأنجبت ولدين هما "ديفيد"، و"ماكينزي".
أنهت "جوان" كتابها الأول كمسوّدة على آلتها الكاتبة القديمة عام 1995م، وبعد ذلك بقليل؛ أرسلته إلى 12 دار نشر، لكن جميع الدور رفضت العمل. لم تستسلم، ولم تيأس، وكانت لديها ثقة كبيرة في قلمها، وجرأة كلماتها التي تنقل القارئ إلى عالم آخر، وكان إيمانها بالنجاح يقينيًا.
في وقت لاحق؛ قبلت إحدى دور النشر الصغيرة كتاب "جوان"، وتقاضت "عربون" قيمته 1500 جنيه إسترليني، ونصحها الناشر بأن عليها أن تستمر في تدريس اللغة الإنجليزية؛ لأن الكتب الخاصة بالأطفال لا تدر ربحًا.
بعد فترة قصيرة؛ نجح كتابها في "المملكة المتحدة"، كما تلقت عرضًا بقيمة مالية ضخمة لحقوق النشر في "الولايات المتحدة الأمريكية"، بالإضافة إلى تحويل كتابها لفيلم سينمائي. لتتوالى نجاحات سلسلتها القصصية من الجزء الأول إلى السابع ("هاري بوتر وحجر الفلاسفة"، "هاري بوتر وحجرة الأسرار"، "هاري بوتر وسجين أزكابان"، "هاري بوتر وكأس النار"، "هاري بوتر وجماعة العنقاء"، "هاري بوتر والأمير الهجين"، و"هاري بوتر ومقدسات الموت"). كما كانت لديها أعمال أخرى مثل (المنصب الشاغر، وسلسلة روايات في أدب الجريمة، ودودة القز ومهنة شريرة، والأبيض القاتل، والدم المضطرب).
أصبحت "جي كي رولينج" روائية، فاعلة خير، منتجة أفلام، كاتبة سيناريو، وكاتبة الأطفال الأشهر على مستوى العالم خلال العقدين الفائتين. في عام 2004م، ذكرت مجلة "فوربس" أن ثروتها تجاوزت المليار دولار، وبذلك تكون أول مليارديرة في العالم من كتاباتها. وفي أكتوبر 2010م، اختيرت من قبل محرري المجلات كأكثر النساء تأثيرًا في "بريطانيا". تنازلت "جوان" عن وضعها كمليارديرة عندما تبرعت بمعظم إيراداتها للجمعيات الخيرية، ومع ذلك، لا تزال أحد أغنى الأفراد في العالم.
إن الإصرار على تحقيق الحلم وتحويلة إلى نجاح كبير، أهم ما يمكننا تعلمه وإدراكه من هذه القصة، وهو ما يشير بوضوح إلى مدى أهمية الاعتقاد الذاتي (الثقة بالقدرات الذاتية). فهناك عدد من المحاور نستطيع أن نتعلم منها؛ فلو كانت "جوان" استسلمت للضغوط الناجمة عن تجربة زواج فاشلة وإعالة طفلة صغيرة؛ لكانت توقفت بها الحياة، كذلك.. إذا لم تكن تثق في قلمها وقدرتها واستسلمت لآراء دور النشر الـ 12 التي رفضت أعمالها لما أصبحت كاتبة الأطفال الأكثر شهرة في العالم، وأخيرًا.. إذا لم تدرك "جوان" أهمية الإرادة والصبر وتطوير الذات.. ما تحققت النتيجة التي وصلت إلى ما نراه ونتعلم منه اليوم.
يضاف إلى ما سبق، درس مهم أن ندركه، ألا وهو التواضع وطيبة القلب التي اتسمت بها "جوان"، وذلك عندما تخلت عن جزء من ثروتها من أجل الاعمال الخيرية، مساعدة منها للإنسانية في جميع أنحاء المعمورة. وأتسأل هنا: ألا يعد ذلك المعنى الحقيقي للنجاح والقيادة والتأثير، بأن تتوافر الجهود للنهوض بالمجتمعات المختلفة والارتقاء بالإنسان بالكلمة الجادة والمضمون الهادف للتقارب بين الثقافات.
في النهاية، "الاعتقاد الذاتي" من أقوى أنواع الاعتقادات، فنظرتك إلى نفسك وتقديرك لقدراتك؛ يمكنهما أن يزيدا من قوتك، ويساعداك في تحقيق ذاتك وأهدافك وإشباع رغباتك، لكن عليك الحذر، فقد تكون تلك القوة مدمرة، وتبعدك عن الطريق إذا أُصبت بالغرور أو بالثقة الزائدة.
التعليقات