كم مرةً يمكنك أن تخطئ وتتمنى أن يسامحك الشخص الآخر؟! حتى لو لم تعترف بهذا جهرًا.. فهو بقلبك، وكم من مرة لم ترغب في مسامحة شخص ما، هناك من يجد في التسامح ضعفًا والمغفرة "طيبة بلهاء" لا وجود لها في عالم اليوم، وتناسى هؤلاء أن الأديان السماوية المختلفة نادت بها، فالتسامح لا يعد تسامحًا إلا وأنت في موقف القوة، أما الإنسان الضعيف، فعندما يسامح يكون مجبرًا، لأنه ببساطة مغلوب على أمره، لذلك نقول "التسامح والعفو من شيم الكرام".
فكيف نعيش في سلام ونحن أنفسنا لا نتسامح مع ذواتنا؟
روى لي أحد رجال العلم ـ يليق به وصف الحكيم ـ قصة صديقين من زمن بعيد، تجسد في أحدهما المعنى الحقيقي للتسامح
وحكى أنه كان هناك صديقان "سلطان" و"خليفة"، تجمعهما المودة والرحمة والإخلاص، وقررا ذات يوم أن يسافرا معًا في رحلة إلى البادية للاستمتاع بالطبيعة، وبعد مرور عدة أيام، نشب خلاف كبير بينهما، أدى إلى صفع "سلطان" من قبل "خليفة" بطريقة مهينة!
فماذا كان رد فعل "سلطان"؟ كان بإمكانه رد الصفعة بمثلها بقوة، لكنه استعاد شريط المواقف بينه وبين صديقه، وحدثته نفسه بأن سنوات الصداقة بينهما لا يمكن أن تزول هكذا في لحظة، حتما لا بد من نقطة عودة، وأسر الحزن في نفسه، منتظرا ما ستؤول إليه صداقتهما في الأيام المقبلة.
حافظ "سلطان" على هدوئه ورزانته وصمته، رغم إحساسه بالقهر والألم الشديد مما فعله صديقه، واكتفى بأن كتب على مساحة من الرمال في الجوار تلك الكلمات:
"اليوم صفعني أعز صديق لي على وجهي"
واستمرت الرحلة بعد تلك الحادثة، ورغم أن "سلطان" لم يشعر بالارتياح الكامل مثلما كان من قبل؛ فإنه حاول تجاهل الأمر والاستمتاع بالرحلة.
مرّ "سلطان" و"خليفة" على واحة بها بحيرة كبيرة، فقررا السباحة وغسل جسديهما من تعب الرحلة والاسترخاء بعض الوقت. لكن القدر لم يمهلهما كثيرًا؛ إذ إنه في أثناء السباحة والغوص لاستكشاف قاع البحيرة، وجمع الصخور ذات الأشكال المميزة والجميلة، علقت قدم "سلطان" بين صخور البحيرة، وبما أن موقع الحادثة كان في أعمق نقطة بالبحيرة؛ فإنه تعرض للموت المحقق!
لم يتمهل "خليفة"، وحاول جاهدا فك أسر صديقه من تلك الصخور، لكن خطورة الأمر كانت تزداد بمرور الوقت بسبب الاختناق، وهو ما شكل ضغطًا كبيرًا كان كفيلًا بأن يقضي عليهما معًا.
زاد الإصرار والعزيمة ودافعية البقاء الغريزية لدى الصديقين من محاولة النجاة بشدة؛ حتى نجح "خليفة" في إنقاذ "سلطان" من مصيره المحتوم. وجلسا معًا على جانب البحيرة لالتقاط الأنفاس. وفجأة؛ همّ "سلطان" واقفا وذهب إلى أقرب صخرة وكتب عليها هذه الكلمات:
"اليوم.. أنقذني أعز صديق من الموت".
تعجب "خليفة" من فعله صديقه وسأله: "عندما ضربتك كتبت على الرمال.. ولكن الآن تكتب على الصخر.. لماذا؟".
سكت "سلطان" قليلًا ثم قال: "عندما آذيتني كتبت على الرمال.. لعلمي أن رياح التسامح سوف تزيل الألم من نفسى وأنها كانت لحظة سوف تزول مثلما يمحو الماء أثر الكتابة على الرمال.. وحينما أنقذتنى من الموت؛ كتبت كلماتي على الصخر، حتى لا تمحوها الرياح طوال العمر، فيقينى أن سنوات الصداقة بيننا لا يمكنها أن تزول في لحظة غضب، رغم قدرتى على الثأر لنفسى، وآثرت التمهل، وقد أثبت موقف الغرق صحة تفكيرى، وأن غضبك غلب حكمتك للحظة، لكن معدنك أصيل، بدليل أنك لم تتردد في إنقاذى".
ما فعله "سلطان" كان نابعا من روحه السمحة، فكل فرد منا إذا توقف قليلا قبل الإقدام على فعل متهور، وفكر قليلا، فإنه حتما سيجد الإجابة المناسبة، فليست الإجابة تلك التي يمليها عليك فرد ما، أو حتى متخصص في علم الاجتماع، لتفعيل مثل هذه القيمة في كل ما تمارسه من أفعال حياتية على مختلف المستويات الاجتماعية.
هناك أشكال مختلفة من العلاقات الإنسانية في حياتنا، مثلها مثل تلك العلاقات المختلفة بين الدول، فاحترام تلك العلاقات يجعلنا ندرك أن السلام لن يسود العالم إذا ظل أطراف تلك العلاقات غير متسامحين مع أنفسهم ومع الآخر.
فالحقيقة المؤكدة، أن التسامح والعفو والحب أسلحة فعالة تحقق لك السعادة.. إذا تم استخدامها بالطريقة الصحيحة وبصدق وأخلاق. أما الكراهية، فتؤدي إلى طريق واحد، هو "الهلاك".
التعليقات