لم يكن أحد يتخيل أو يتوقع يومًا أن تصبح تلك الطفلة الضعيفة "بطلة أسطورية"، إذ لقبتها الصحف الإيطالية بـ "الغزالة السوداء"، وقال عنها الفرنسيون "اللؤلؤة السواء"، كما لُقبت بـ "أسرع امرأة في التاريخ"، وكان ذلك عام 1960م، فكتبت لنفسها ولبلدها تاريخًا بأحرف من ذهب.
"ويلما رودولف" الطفلة المعجزة من أصول إفريقية، ولدت يوم 23 من شهر يونيو عام 1940م، بولاية "تينيسي" بالولايات المتحدة الامريكية، كانت ضعيفة، وغير مكتملة النمو نتيجة الولادة المبكرة، فأصيبت بالالتهاب الرئوي المزدوج والحمى القرمزية وأمراض أخرى متنوعة في الفترة الأولى من حياتها، ولم يتوقع الأطباء في تلك المرحلة أنها ستعيش طويلًا.
كانت عائلتها فقيرة ـ ذات دخل منخفض، بالإضافة إلى كونها الطفلة العشرين بين اثنين وعشرين أخًا وأختًا، وبما أنها "سوداء البشرة" في عصر كان يسوده "التمييز العنصري"؛ رفض المستشفى المحلي بالمدينة علاجها طبقًا للقوانين ـ آنذاك، فتحملت والدتها مسئولية علاجها؛ حيث كان هناك طبيب واحد فقط في مدينتها يعالج أفراد المجتمع من "ذوي البشرة السوداء".
لم يكتفِ القدر بذلك.. بل ظهرت مشكلات أخرى في ساقها اليسرى قبل بلوغها سن الخامسة، وتم تشخيص المرض بـ "شلل الأطفال"، كما أقر الأطباء أنها لن تسير على قدميها مطلقًا حتى نهاية العمر.
ومع ذلك، استمرت العائلة في دعم الفتاة الصغرى، وتقديم كل ما تحتاج له من رعاية.. وبعد فترة؛ اكتشفت الأم إمكانية علاج ابنتها في كلية طب خاصة بـ "السود" على بعد نحو 80 كيلومترًا عن مدينتهم، فلم تتمهل الأم، وكانت تحمل طفلتها إلى هناك مرتين أسبوعيًا، حتى تعلمت الطفلة المشي بمساعدة الدعامة الطبية.
استمر دعم العائلة ومراعاتها للفتاة الصغيرة بكل صبر وحب طوال سبع سنوات، حتى بلغت عامها الثاني عشر؛ حينها حدثت مفاجأة غير متوقعة، متحدية كل منطق أو قوانين الطبيعة لمرض "شلل الأطفال" وتوقعات الأطباء، إذ قررت الفتاة أن تتخلص من الدعامة الطبية، وبالفعل استطاعت أن تخطو خطوتها الأولى وتسير على قدميها، وبدأت حالتها في التحسن.
ركزت "ويلما" على قدرتها الكامنة بداخلها واستكشاف المهارات المختلفة، فالتحقت في المرحلة الثانوية بفريق كرة السلة الخاص بالمدرسة، وكانت سبب حصول الفريق على بطولة الولاية، وبعد ذلك قادت الفريق للفوز بجميع المسابقات التي شارك بها.
لم تكتفِ "ويلما" بذلك؛ فخلال تلك المرحلة، اكتشفت مهارة جديدة تحقق لها حلمها الذي كانت تحلم به، وهو أن تكون "أسرع عداءة" في زمنها، ولأنها كانت تملك شغفًا كبيرًا.. فإنها ذهبت وطلبت المساعدة من أحد مدربيها.
لا أحد كان يصدق ما يحدث... فبعد أربع سنوات فقط من خطواتها الأولى؛ اشتركت في الأولمبياد التي أقيمت بمدينة "ملبورن"، في "أستراليا" عام 1956م؛ حيث كانت أصغر عضو في الفريق الأمريكي، فكانت تبلغ من العمر ستة عشر عامًا. وحققت الميدالية البرونزية في سباق 400 متر تتابع.
لم تتوقف "ويلما" عند هذا الحد؛ إذ ركزت على صقل مهاراتها من عام 1956م، حتى أولمبياد مدينة "روما" بـ "إيطاليا" عام 1960م؛ لتصبح أسرع عداءة في اللعبة. وأصبحت أول فتاة تحصد ثلاث مداليات ذهبية في الدورة نفسها في تاريخ "الولايات المتحدة الأمريكية"، إلى جانب تحطيمها الرقم القياسي الدولي لسباقات 100 متر و200 متر و400 متر تتابع ـ رغم إصابتها في كاحل القدم في السباق الأخير.
***
من هذه القصة، يمكننا أن ندرك أن تحقيق الحلم يحتاج إلى تركيز وإصرار وعزيمة، كما يحتاج إلى تحييد الهدف واكتشاف المهارات المختلفة للشخص نفسه، وليس المهارات التي يُرغم عليها. نقطة التحول الرئيسية في حياة "ويلما"؛ كانت من خلال قراراتها، وذلك لتستطيع تحقيق حلمها، ورغبتها في أن تكون أسرع عداءة رغم حالتها الصحية.
ومن ثم؛ زاد تركيزها على قدراتها الكامنة بداخلها، وعدم الانتباه للعوامل السلبية أو المشتتة، مع اكتساب سلوكيات مختلفة عن سابقتها، كنتيجة طبيعية للمتغيرات المفروضة، حتى يتسنى لها تحقيق هذا النجاح التاريخي، بالإضافة إلى عدم الاستسلام والاجتهاد والتنظيم والإصرار والعزيمة.
وفي النهاية، علينا تعليم أنفسنا وأولادنا أن النجاح طريق صعب يحتاج إلى مجموعة من الأدوات، تبدأ بالحلم مرورًا بالدافعية، ثم المهارة، لتأتي بعدها الرسالة والرؤية، العزيمة، التصور، تكوين الفريق الجيد، التسامح ونبذ الكراهية.
التعليقات