كنت أسمع عن مصيري ومصير أمثالي قبل أن ألقاه، ولكنني لم أتصوّر أنه سيكون حقيقة يومًا ما، كما لم أكن أتخيّل أن يكون بهذه القسوة، ها أنا حبيسة في ركنٍ مظلمٍ بأحد الغرف في نفس المكان الذي كنت أتألّق وأسطع تحت أضواء مسرحه الباهرة لسنوات طويلة.
رائحة الرطوبة والعفن تزكم الأنوف، والتراب والقذارة في كل مكان، وجلدي الناعم أصابه المرض وصار يتساقط كمرضى الجذام، يالها من نهاية، نهاية أَنسَتني روعة البدايات وكأنّ كل ما حققته من نجاحات كان وهمًا، كان حلمًا، استيقظت منه على واقع كابوسي.
أنا الساحرة التي طالما طاردني الرجال، ولهثوا خلفي شبابًا وشيوخًا وحتى الصبيان، يجذبهم شكلي الفتّان أخلب ألبابهم برشاقتي، وملاحة رقصي ونعومة ملمسي.
أنا المحبوبة المألوفة المعشوقة استعبدت الأوغاد والنجباء على حد سواء ولكني لا أسكن قلبًا واحدًا، ولا أستقر بين أحضان رجل واحد، فقدري التنقل من هنا لهناك، وليس هذا ذنبي، فيقيني أني خلقت لذلك، ولا أُجيد سواه.
أنا العزيزة الذليلة الحقيرة الجليلة، أحيانًا يسوقني القدر لأحضان أحمق غشيم لا يجيد التعامل مع الملكات أمثالي فأفرّ منه فرار الغزال من الأسد، ويلهث خلفي دون أمل، وأحيانًا يسوقني القدر لمن يعرف قيمتي ويجيد التعامل معي والتلاعب بكل ذرّة في كياني كما يجب أن يكون، ولكن ما أن أهواه على غير العادة أفاجئ به يركلني كما يُركل الكلب الأجرب في الشارع.
ووسط سماء تملؤها النجوم فأنا النجمة الساطعة اللامعة، وبالرغم من أن لي أخوات كثيرات يشبهونني في هيئتي مع اختلاف الشكل واللون، لكني أنا الأجمل، أنا الأشهر، أنا الأكثر تميّزًا وتألقًا، وكلنا نعمل في مجال الاستعراض ولعبة المتعة إلا أنني أكثرهم خطفًا لقلوب الرجال على مرِّ الزمان، وقد تَعْجب مثلي فقد صار لي في هذا الزمان معجبات من النساء المشاهدات بل والمغازلات!!
كنت في عروضي ورقصاتي وقفزاتي أشبه الطير حين أمتطي الهواء وأخترق الفضاء، وأشبه الغزال حين يركض على الأرض، كل هذا يجذب لي جمهورًا من المشاهدين والمتابعين، ولا أكذب إن قلت أن جمهوري تعداده يتخطّى الملايين، ومن كل الجنسيات.
أنا الساحرة التي تقاتَل لأجلي الرجال وأسالوا دماء بعضهم البعض وسقطوا بالمئات ما بين قتلى وصرعى، كما أن سحري أيضًا كان سببًا مباشرًا في إطفاء فتيلة الحرب الأهلية بين مواطني بلدتي.
وها أنا اليوم في لحظات انكساري، وذهاب جمالي أكتشف أن كل هؤلاء الملايين لم يكونوا عشّاقًا صادقين، فالحب الصادق لا تقتله الأيام، ولا يذهب إن ذهب الجمال أو ترهل العود، ولكن لسوء حظي فقد عشقني الكثيرون، لكنهم أغرموا بالجسد دون الروح بل ربما ظنوا أصلًا أني بلا روح.
ساكنة دون حراك في ركني المظلم بانتظار نهايتي التي صارت محتومة، وبينما أنا غارقة في أفكاري السوداوية وذكرياتي المأساوية إذا بي أسمع أصوات أقدام تقترب من غرفتي، وعلا حديثهم واختلطت الأصوات في رأسي المهموم المشتت، ولكن ميّزت من بينهم صوت طفل صغير كما ميّزت صوت الماتادور، الماتادور أحد أفضل لاعبي كرة القدم أعرفه جيدًا أعرف صوته وأعشق ملامحه، ولي معه أجمل ذكريات.
اقتربت الأقدام والأصوات رويدًا رويدًا من باب غرفتي، ولا أدري لماذا؟ ولكن شعرت ببصيص أمل، وفتحوا الباب دون أن يطرقوه ودخل اللاعب الشهير الذي توقّعته، ومعه طفل على كرسي متحرك ورجل وامراة بدا أنهما والديّ الطفل ورافقهم أمين المخزن الذي أرقد فيه.
أشار أمين المخزن بيده تجاه الركن الذي أرقد فيه، بل أشار تحديدًا إلي، وقال مخاطبًا اللاعب الشهير: "هذه يا سيدي هي الساحرة المستديرة الشهيرة، تلك هي الكرة التي أحرزت بها الهدف الذي جلب لبلادنا كأس العالم في النهائيات الماضية، تلك الساحرة التي كانت سببًا في إيقاف الحرب الأهلية التي كادت أن تعصف بالبلاد حين التفّ الشعب بأكمله خلف منتخب البلاد؛ لتحقيق حلم الفوز بكأس العالم لأول مرة، وهي أيضًا السبب في طلاقي من زوجتي؛ لاهتمامي بها وبأخبارها وإدماني عليها، وإهمالي لأطفالي وزوجتي، ومؤخرًا هي أيضًا السبب بإصابتي بأمراض الضغط والسكر لانفعالي أثناء متابعتي للمباريات المختلفة" .
فابتسم له اللاعب الشهير واقترب مني وحملني فسَرَت القشعريرة في بدني، ثم مسح عنّي التراب بعناية شديدة، وأوصلني بجهاز الهواء لآخذ نفسًا جديدًا ردّ إليّ بعضًا من شبابي وشدّ كثيرًا من ترهلاتي، ثم أخرج قلمًا مميّزًا من جيبه فوقّع باسمه على جلدي، وأضاف تاريخ اليوم الذي أحرز فيه هدف التتويج بكأس العالم وكنت أنا كرة الحلم!، ثم سلّمني بعناية لأحضان الطفل الصغير فلمحت في عينيه البريئتين بهجة وسعادة لم ألمحهما من قبل في عيون كل الرجال الذين لمسوني، ولم يحتضنني أحدهم كما احتضني هذا الطفل، ولم أشعر بالأمان كما شعرت بالقرب منه. لحظات مرّت كالحلم، ولكنها كانت كفيلة بأن تُنسِيني الشهور القاسية التي قضيتها ما بين رائحة العفن والرطوبة والتراب الذي كساني في المخزن، وسمعت اللاعب يوصي الطفل قائلًا: "ها هي الساحرة قد صارت مِلكَك للأبد، ويجب عليك أن تحافظ على وعدك الذي قطعته لي؛ بأن تبقيها بأمان للأبد وتورثها لأولادك بعد عمر طويل، والأهم من ذلك أن تعود من جديد لجلسات العلاج الطبيعي التي انقَطَعت عنها لتشفى بإذن الله وتمارس رياضة كرة القدم وتصبح أنت الماتادور الجديد بإذن الله".
فأومأ الطفل برأسه موافقًا وقال بثقة وحزم ونبرة صوتٍ مفعمة بالأمل: " بكل تأكيد، سأكون عند وعدي يا عماه" واجتمعنا لنلتقط صورة، كان الكل فيها سعيدًا ولكني كنت أكثرهم سعادة؛ فقد ولدت من جديد بل وربما كان ميلادي الثاني أفضل من الأول بكثير، وسيكون علي أن أمارس سحري من جديد على هذا الطفل الجميل ولأجل غرض نبيل.
التعليقات