مضيت في طريقي بالردهة المؤدية إلى غرفة التشريح بخطوات واثقة فقد تعاملت مع الجثث عشرات المرات من قبل حتى صار الأمر أسهل بالنسبة لي من إعداد كوب من الشاي، ولكن فجأة ودون مقدمات وجدتني هذه المرة كلما اقتربت من باب الغرفة تسارعت دقات قلبي وبدأ جبيني في التعرق، وازداد الأمر سوءًا برعشة في أحد كشافات الإضاءة بالردهة ومعه سرت رعشة في كل أوصالي، وفتحت باب الغرفة ورغم صوت صريره المرتفع إلا أن صوت دقات قلبي والضجيج في رأسي كان أعلى، ومع تسلل رائحة الفورمالين التي نحفظ بها الجثث إلى أنفي، ومنذ أن وقعت عيناي على الجثة الممدة على طاولة التشريح من بعيد تسمرت قدماي على مدخل الباب، وللحظة لم أدري ما المشكلة وما الفارق بين هذه الجثة وعشرات الجثث التي رأيتها من قبل، ولكني سريعاً ما أدركت الفارق، الفارق هو شعوري بأنني سبق وأن رأيت هذه الجثة من قبل، اعرفها جيداً، خطوة او إثنتين إلى الأمام وسأتأكد من شكوكي، استجمعت شجاعتي وتقدمت وياليتني ما تقدمت صدقت ظنوني وخانتني قدماي فلم تعودا قادرتين على حملي فأسرعت إلى الكرسي وارتميت عليه، كانت الجثة جثتي أنا شخصياً.
اسمي سمير، أخصائي طب شرعي بأحد المستشفيات الخاصة، والتي بها أيضاً قسم طوارئ يستقبل كافة الحالات بلا استثناء حتى غير المقتدرين، كان راتبي معقولاً جداً ويوفر لي معيشة كريمة مستقرة، ولكنه وللأسف لم يكن كافياً لزوجتي ولطموحاتها، وقد كنت أحبها حباً جماً، حب عبادة، وكانت تبادلني هي أيضاً مشاعر الحب الملتهبة في فترة الخطوبة وفي بداية الزواج ومع الوقت كان حبي لها يزداد يوماً بعد يوم بينما كانت تنفر مني يوماً بعد يوم وتصفني بأنني محدود الطموح، أحيا على هامش الدنيا ولا أجيد اقتناص الفرص، وأنها قد ندمت على اليوم الذي قبلت فيه الارتباط بي، وصار زواجنا على وشك الانهيار.
كنت ضعيفاً هشا لا أتخيل حياتي بدونها قد أتخيل حياتي دون قلب أو دون عقل ولكن ليس دون رغدة، وكنت على أتم الاستعداد لأن أفعل أي شئ للاحتفاظ بوجودها في حياتي، وهنا كان علي قبول العرض الذي طالما رفضته من رئيس القسم الذي اعمل به بالمستشفى، كان للمستشفى نشاطاً خاصاً سرياً يدر على صاحبها ملايين الجنيهات، يدار سراً، وكانوا يختارون بعناية الأطباء ممن يتوسمون فيهم انعدام الضمير والأخلاق والدين للعمل بالمستشفى ولهذا وقع اختيارهم علي وعرضوا علي أن أعمل معهم فقد توافرت في كل الشروط، إلا أنهم أغفلوا أني جبان وعديم الطموح ولم تكن لدي الشجاعة الكافية لأن أشاركهم في نشاط سرقة وتجارة الأعضاء، ولكني تمكنت من الاحتفاظ بوظيفتي بعد أن تعهدت لهم بالكتمان، خصوصاً وأن البديل كان تمديدي على طاولة التشريح للاستفادة بأعضائي، أو تسليم إيصالات الأمانة التي وقعتها على نفسي مقابل القروض الضخمة التي اقترضتها منهم وكنت متعجباً حينها من كرمهم الزائد، ولهذا فقد آثرت أن أحتفظ بصمتي ووظيفتي وأعضائي ولكن حين كدت أفقد زوجتي الحبيبة كان علي أن استجمع شجاعتي واشترك معهم بشكل جدي، لأجمع المال اللازم لتحقيق أحلامها، ولأكون جديراً بها، وقد كان.
لا يخفى عليك الآن لما كنا نستقبل الحالات من غير القادرين مجاناً فقد كانوا صيداً ثميناً لحصد الأعضاء، فقد كانت المستشفى على طريق سريع ولم يوجد سواها على مسافة كيلوميترات عديدة فكان أغلب مصابي الحوادث من نصيبنا، وكنا قدرهم، احياناً كنا نسرق كلية مريض بحجة إجراء عملية ما لإنقاذ حياته، وأحياناً كنا نخدرهم أحياءاً وننقل لأهلهم خبر موتهم ونقلهم للمشرحة، وحينها كان الصيد يكون أكبر والغنيمة أثمن.
تحسنت حالتي المادية، ومات ما تبقى من حالتي إنسانيتي، وصرت أتحول للبهيمية تدريجيًا خصوصًا مع زوجتي التي لم تكن تشبع أبداً مهما فعلت، وفي اليوم المشئوم الذي التقيت فيه بالجثة المشابهة لي كنت قد استيقظت مبكراً جداً أو بمعنى أدق لم انم أصلاً بعد أن تمنعت علي رغدة في الليلة السابقة لتعاقبني على عدم قدرتي على توفير المال الكافي لها لشراء شاليه الساحل الشمالي الذي كانت تحلم به، ونزلت من المنزل في حالة يرثى لها دون نوم ودون قهوة ودون رغبة في الحياة، وكاد دماغي أن ينفجر من التفكير في عجزي المستمر عن إرضائها مهما فعلت حتى بعد أن بعت نفسي للشيطان، ركبت سيارتي بحالتي هذه متجهاً للمستشفى، وانهمرت دموعي رغماً عني، وأفقدتني القدرة على الرؤية السليمة وبينما كنت أجففها بكم القميص وجدت نفسي أسفل سيارة نقل وكان الصدام مروعاً.
استيقظت لأجد نفسي على سرير التشريح في المشرحة، كنت أنا الممد على السرير مدركاً تماماً لما حولي شاعراً بكل شئ من برودة الجو ولمسات الشخص الواقف بجواري، ولكنني كنت عاجزاً تماماً عن الحركة أو حتى مجرد الإيماء، ولم يكن الواقف أمامي شبيهاً لي وإنما كان صديقي وشريكي في العمل اليومي القذر، وكنت أنا اليوم فريستهم بعدما نُقلت إلى المستشفى ووجدوا حالتي متردية وكالعادة بدلاً من أن ينقذوني حقنوني بالمخدر وأخبروا أهلي بوفاتي ونقلي للمشرحة لتحديد سبب الوفاة، ولم تفلح نظراتي العاجزة المستعطفة من أن تثني صديقي من أن يمسك بالمشرط ليشق صدري ويفعل بي ما فعلته بعشرات الأبرياء.
التعليقات