عن "الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ" أصدر الباحث الشاب علي قطب كتابًا عن مجموعة بيت الحكمة للصناعات الثقافية بالقاهرة (2024) يحمل هذا العنوان، حيث ينساب صوت القاهرة العتيق من بين ثنايا الكتاب حاملا معه ألحانًا وأغنيات وأشعارًا مميزة، ليكشف عن بعد غنائي عميق في إبداع محفوظ الروائي، حيث يتناول الكتاب رحلة عبر أزمنة القاهرة وأروقتها، من خلال صدى الموسيقى والأغاني التي تشكّل نسيجًا مهمًّا في أعمال نجيب محفوظ.
يرى قطب أن الغناء في روايات محفوظ، لا يقتصر على كونه مجرد عنصر ديكوري، بل يتحول إلى لغة موازية للغة السرد، تثري المعنى وتضفي عليه أبعادًا جديدة.
يقول: "هذا سعيٌّ لرصد دور الغناء في أعمال نجيب محفوظ يضع في حسبانه توظيف الشعر في القصص والروايات أيضا، لما يمنحه الشعر من غنائية تسري في كيان النص السردي المنطلق، كما يسير الطريق بالقافلة التي تضم الأحبة والغرباء في الذهاب والإياب".
وهكذا كان الخطاب السردي عند نجيب محفوظ ملتمسًا من الغنائية دعمًا أسلوبيا يدل على الروح الشرقية لهذا المبدع العالمي. مؤكدًا أن الغناء ظاهرة في إبداع نجيب محفوظ.
ويكشف الباحث أن الأغاني لم تكن حاضرة عند نجيب محفوظ بوصفها وحدات ربط مع المرجعية الواقعية أو التاريخ فقط، ولم يستخدمها المبدع كقطع للديكور أو الزينة في أعماله، إنما يعبر بها عن المكوِّن النفسي لمجتمع له حضارته وتاريخه.
ويلاحظ أن توظيف الأغاني يكثر في "أصداء السيرة الذاتية" مع كثافة التعبير الذي يصل إلى حد الحكمة "فالغناء حوار القلوب العاشقة". كما أن الغناء والطرب ما هما إلا وسيلة لعلاج النفوس المتوترة.
ويوضح قطب أن تجربة نجيب محفوظ وعلاقته بالغناء تعد تجربة ثرية شاهدة على عصور من الغناء مثلما كانت شاهدة على عصور من الفن والثقافة والسياسة والاقتصاد. صاغ كل هذه الأفكار في رؤى فلسفية وإنسانية جعلت من أعماله أيقونات باقية عبر الزمن.
وفي القسم الثاني من الكتاب الذي يقع في 224 صفحة، يضع علي قطب معجمًا للأغاني والأشعار التي أوردها محفوظ في أعماله، ووظَّفها في مؤلفاته الروائية والقصصية، ونلاحظ أن معظم الشعراء الذين استعان بهم محفوظ كانوا من الشعراء القدماء من أمثال: لبيد بن ربيعة، وعمر بن الفارض، والبوصيري، وامرؤ القيس، وبشارد بن برد، وأبو العتاهية، والمتنبي، وبديع الزمان الهمزاني، وأبو العلاء المعري، والشبلي، وابن قلاقس، وأبو فراس الحمداني وغيرهم. ولم يستعن بأبيات من الشعراء المحدثين سوى لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمود محمد صادق، والشاعر الليبي أحمد رفيق المهداوي. وهو ما يكشف عن ثقافة شعرية واسعة واطلاع جيد على تراث الشعر العربي في جميع عصوره الأدبية.
بالإضافة إلى استلهامه أناشيد من أدب مصر القديمة، وخاصة من أنشودة إخناتون في رواية "العائش في الحقيقة"، وغزليات من حافظ الشيرازي في "حكايات حارتنا" و"الحرافيش".
كما سنجد بعض الأبيات التي قام محفوظ بصياغتها لتناسب بعض المواقف الدرامية، مثل قوله في "أولاد حارتنا": "جبل .. يا نصير المساكين .. جبل .. يا قاهر الثعابين"، وغيرها، مما يدل على روح الشاعر التي تكمن خلف سرديات نجيب محفوظ.
إنها زاوية جديدة ينظر من خلالها علي قطب إلى إبداع نجيب محفوظ الذي يلهم من يقرأه إبداعا موازيا ورؤى مبتكرة ربما لم تخطر على بال أديب نوبل وقت الإبداع.
التعليقات