ضوء يتسلل من خصاص الأبواب، إنها آخر خيوط أشعة الشمس بنهاية النهار تتسلل عبر نوافذ وأبواب الوحدة الصحية حيث تأخذ الطبيبة غفوتها فى زمن لا يتعدى النصف ساعة، أسندت جبهتها على ساعديها فوق حافة المكتب دون الشعور بشيء.. يداهمها النعاس وتقاومه بشدة، حتى بدأت بالهذيان كالمحموم بليلة شتاء قارس تأكل لفحاته الأخضر واليابس، أصوات إمرأة من أقصى بعد تصرخ كالمذبوح وتبكى (سيهجرنا مع امرأته سيتركنا لنا الرأس محنية، ستواجهين من يطلب يدك وحدك، من أنجبك رحل يتزوج بالضفة الغربية).. رن الهاتف، قامت فزعة على لسانها كلمة (لا.. لا يا أمى لا تنهارى).. ردت والنعاس يغلبها وتلك الأحلام كالكابوس يطاردها.. (من الجيد أنك أتصلت، كانت تراودنى أحلاما مزعجة تمنيت أن تنقضى وأنهض لعملى).. صبت الماء على وجهها وهى تنظر بمرآة أحرافها مغبرة تعتلى حوض صغير بمرحاض الغرفة الشاهد على بكائها الصامت كل ليلة عمل مرهقة ترى فيها أنماط حياة تمنت لو لم تشاهدها..وثبت فى إهتمام لمعاودة العمل دون كلل، ليس هناك أصعب من تقضيه اليوم كاملا بالعمل دون الاكتراث لراحة الجسد، لكن طبيعة عملها بوحدة الرعاية الصحية بالعريش تفرض عليها النهوض لأطول وقت ممكن لمراعاة المرضى والجرحى اللاجئين عبر حدود رفح، فى مشاهد يصعب تصديقها.. على المرء أن يتجنب كل أنواع العنف ما إن طالت أراضيه وكرامته عليه المقاومة، لكن المسافة بين الشعور عن بعد والتواجد المميت قد لا تُظهر مجريات الأمور كما ينبغى ، فماذا عن الكهل والطفل الصغير والحدث؟.. ترى أين يكون ملاذ الأمهات الثكالى بعد فقد فلذات الأكباد؟..
هناك إحداهن مروراً بالممر المؤدى لغرفة الطبيبة شعرت أن خلايا جسدها العليل بدأت فى التآكل، وعند الولوج للغرفة لم تتعدى الدقائق الأولى والبدء فى الكشف الطبي خارت قواها تماما واندفع ماء العين يسيل كدماء الشهيد، ببحة صوت أضناه البكاء (أنا أم الشهيد..أنا أم الشهيد).. كيف للطبيبة أن تتجاوز نزعة الطمأنينة من صدرها بعد قسوة مشهد طبع كالوشم بذاكرتها؟
إن تضميد جراح الجلود لن يغنى عن تضميد جراح النفوس فهناك فى النفس شىء ما لن ينتهى للأبد.. كان عليها الثبوت والتماسك أمام الجرحى فلا مجال للسقوط أو الإنهيار.. مما أثار دهشتها ذلك الصبى الجريح، إنه صامت منذ دخوله غرفة الكشف حتى أنه لا يتألم رغم حداثة سنه، ربما كان الجرح الغائر فى نفسه أعمق بكثير من حروق جسد تكسوه الحدة والصرامة، ذلك الإصرار الذى يملأ العينان يثير دهشة الطبيبة كلما نظرت لهما، كأنهما درس قاسى تعلمت منه كيف أن تحيا مرفوع الرأس، حادثته(أنت بطل.. سيظل أثرك الرائع معى ما إن حييت)..
الرجل القادم الآن هو آخر كشف لديها اليوم، رجل بالعقد الخامس من عمره، جاء وجهه ملطخ بالشحم، والدماء قد جفت على جبينه ووجنتيه وأسفل فمه، أيضا يبدو أنه لم يحلق شعره منذ زمن، حتى ذقنه بدت مشعثة الشعر ينتشر فيها البياض الملوث بالدماء والأتربة، يبدو أنه جاء من أسفل الأنقاض، ياللتعاسة المرسومة بين ملامحه الغريبة!.. الغريب هنا كيف كان يوجه النظرات إليها كمن يخفى شيئاً لا يريد الإفصاح عنه؟ كيف يعرف ما تضمره فى نفسها هى الأخرى كأنها تتلفظ بكلمات لا يسمع همهمتها غيره؟..فما إن ألقت بصرها وحملقت فى وجهه تداعى أمامها سيل من الذكريات، تسرح بشدة، تغمض عيناها وتفتحها، تهز رأسها خفيفا جهة اليمين واليسار، تبدى ملامح الاستنكار بينما هو يبدى استعطافا تتجاهله..(هل تتذكرين من أنا؟) يضمر السؤال فى نفسه وتدس الإجابة بين أطراف فمها وتصمت (نعم أتذكر).. إن معالم الحرب وكبر السن لن تبدد ملامحا حفرت بداخلها للأبد، لن تنسى ذلك الرجل المكتوب بشهادة ميلادها بخانة الأب دون أن يحمل أية طابع من الأبوة بعد الخزى والعار الذى ألحقه بها واخواتها و والدتها المكلومة، لا وجود للتصالح بعد هجرته للضفة الغربية وانغماسه بذاك المجتمع حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ منه.. إن ما عليها الآن تضميد جراحا لشخص أمامها من المفترض أنه مجرد حالة مثلها مثل بقية والجرحى لكنه إستثناء غير البقية فالدقائق مرت فى ساعات، يدها كانت تطهر جراح قلبها لا جراح جسده، كانت تمد يدها فى ارتعاش خفيف، قلبها يخفق، متعمدة ألا تنظر فى عينيه، تهرب ولا تعلم أين المفر، حتى أنهت عملها كانت على وشك قول كلمة واحدة له بنهاية اللقاء.. (لماذا؟)..
دخل الغرفة أحد الممرضين يخبرها أن زوجها ينتظرها بالخارج، ارتبكت كثيرا، أنهت الكشف، غادر هو كمن ذاب بين الناس ومضى.. انتهت مدة العمل بعد يوم شاق شهد الكثير من الأحداث الموجعة، تماسكت الطبيبة للرجوع لطبيعتها بعد فترة صمت مريب لم يتجاوز دقائق معدودة حتى سلمت الغرفة لزميلة أخرى تبدأ من جديد ليلة أخرى بالوحدة الصحية، وعند لحظة خروجها جاءها أحد العاملين بورقة تركها لها آخر مريض وذهب، كانت مترددة عند فتح المكتوب، تريد الخلاص من الرسالة فالقتها بصندوق القمامة وركضت مسرعة ثم عادت بخطوات مرتعشة تنتشل الرسالة لتقرأها فى عجالة قبل أن تلتقى بزوجها.. وسقطت العبرات من عينيها تسيل على الرسالة بيدها، والمكتوب فيها:
ارفعى رأسك ولا تنحنى بخزى أو بعار، أنا لست بخائن كما تفهمين، كنت أخدع الأعداء وأخدم النازحين بعد التنكيل بهم حتى انكشفت حقيقتى هنا من قِبَل زوجتى فور علمها من أكون وماذا أفعل؟!.. لا وقت للفرار سأظل معهم حتى الإستشهاد، حين تقرأين رسالتى أكون على حدود الضفة أحمل طعاما لأطفال ظلوا جوعى لأيام لم أحسب عددها، أعلم أن الثمن سيكون حياتى لكنى سأموت رجلاً تفتخرين به طيلة حياتك، وقد أكون أتلقى أول رصاصة فى صدرى...
تركت الرسالة جانبا وينفذ إلى مسامعها صوت طلقات نارية آتية من حدود عدو لدود..
التعليقات