هتف البرئ خلف القضبان يعلن عن بدء التحرر، "أنا حر.. أناااا حر.. أنا برئ.. جاءته البشرى ليلته قبل تجلى صفرة الشمس وانقشاع الظلام، يا له من شعور راحة وسكينة يعكرها ذلك المجهول من بقايا العناء، عشر سنوات من الإنقطاع، كان التناغم و الاتفاق بين عزلة الجسد والفكر اللامحدود هو الشىء الأصدق والصديق الصدوق فيما بين تلك الجدران الأربع فلا شىء هناك أكثر من الكتب، الأوراق، الأقلام، طاولة متآكلة، سرير تالف، ضوء خافت..
وهو.. "صابر" المزارع الريفي البسيط.. شغف ومغامرة أودت به إلى ما هو عليه الآن، منذ صغره كان يبتاع الجرائد والمجلات، لم يكن من العسير أن تنقل مكتوباته لأعمدة الجرائد وصفحات المجلات المعارضة، فالفضل لصديقه الصحفى الذى طالما سانده ونشر مقالاته الجريئة أولى الصفحات، مِنَ الهُراء فى نظر البعض أن تنشر مقالات لمزراع ليس له من الحياة سوى جني الثمار والانتظار لمحصول آخر.
لكن يمكن أن تجد بذلك الريفى البسيط ما لا يخطر بمخيلتك، عقل راجح، قلب محب ومغامر، لديه من فصاحة الكلام ما يكفيه عما يضمره فى صدره، وبجرأة قلمه تحول لسجين معزول بمنأى عن زوجة كانت إختيار عقل وأب يُوَرّث العادات لأبنائه، فما إن أشار يستجيب الوِلْدان، لكنها مناسبة، عاشقة فى الخفاء، ترضى بالقليل من الاهتمام والحب، دائمة الصمت والرضا فى تجاهل ما يدور حولها، تعلم أن زوجها لا يكن لها ما تكنه له، هو لا يملك الأمر، كان لديه من العند والطموح ما لا يناسب حقيقة مكانته، تحدى معالى صاحب المقام الرفيع، مالك الأرض، عشرات الأفدنة حيث يشقى الفلاحون ويكد المزارعون بأرض معالى الباشا، لا أحد يعلم لأى مدى تصل سلطته ونفوذه.
كان "صابر" دائم التمرد، يثور على كل أنماط الظلم، لا يدع الفساد وشأنه حتى وإن خاطر أو غامر بكل شيء، يصر على انقشاع أى غمة تدنو من أبناء بلدته، كان دائم التردد على سرايا الباشا محاولاً الحصول على مقابلة كانت دائما تُقَابل بالرفض فينسحب فى عناد وإصرار منغمسًا فى كتابة مقالات ممتلئة التلميح عما يدور ببلدته وتحديدا "معالى الباشا" الذى بدأ هو الآخر بالتنبه له وتدبير المكائد واصطياد فريسته الجديدة لإثبات مصير كل محاول للعبث، كل من لا قيمة له، كل فأر يقف أمام عرين الأسد ولا يأبه بالزئير...
من ضمن صباحات توالت، تعامدت أشعة الشمس الدافئة واستكانت الطيور على أغصان الأشجار يمينا ويسارا وصوت تغاريد العصافير بعث شيئا من طمأنية لا ينتزعها سوى نظرات قاطبة لصاحب المعالى، كان عبوسه مخيف فكثرة التجاعيد و تعاريج الوجه تنم عن ندرة الابتسامات التى لم تظهر قط سوى لابنته الوحيدة كأنها شعاع ضوء تسلل خفية لحياته فصار بقايا رحمة ضلت طريقها و ذهبت نحوه...
-الباشا: وما هذا "ال.. الصصابر'؟ و ما هى قصته؟
-كبير المزارعين: صعلوك يا باشا لا يستحق الالتفات إليه.
-الباشا بغضب: وهل للصعاليك صوت يُسمع بجرائد المعارضة؟
-كبير المزارعين بخبث: يُقطع صوته إن لزم الأمر.
قَطَعت الحديث كفراشة ألوانها زاهية حلت بالمكان لتخطف الأعين والعقول إنها إبنة الباشا فما إن وُجِدت أخيرا يبتسم..
تحدثت بصوتها الناعم وبرائتها المعتادة تسأل عن ماذا يتحدثون؟ فتكون الإجابة لا بأس، لا شىء.. تتسائل فى ذهنها كيف لا شىء وكنتم وكأنكم تدبرون لكل شىء؟!..
كانت الفراشة، صاحبة الوجه الملائكى والنفس الحنون، بعيدة كل البعد عن أفعال أبيها "معالى الباشا" تعلم من هو "صابر" المناضل الجرئ الدائم المطالبة بحقوق أولئك الهالكين فى الأرض، المجاهدين بالحياة للحصول على الفتات، إن الفتات بحد ذاته ينقصهم، لا عدل بهذا المكان، لا سبيل للهروب أو البحث عن أرض أخرى، إنها كأرضهم و عرضهم و كل ما يملكون، إنهم جياع، البعض منهم تنهشه الأوبئة، لا مجال للرفاهية وإن كانت فى أبسط صورها.
وصل استعباد صاحب المعالي لذروته، لم يكن هناك صوت للمطالب الإنسانية سوى صوت "صابر".. بكل مرة حين يذهب لصاحب الوجه العابس مالك الأرض كان يلتقيها هى فقط، عذوبة صوتها اجتذبه منذ اللقاء الأول، كانت سرعان ما تنطفئ ثورته حين المثول أمامها وإعلانه الرفض عن تصرفات أبيها تارة من فرض الضرائب وتارة من أجور العمال التى لا تناسب متطلباتهم ولا تساوى مشقتهم بالعمل، يا لها من رقيقة تملك قلبا رحيما، بكل مرة كانت تنصت له، تمتص غضبه، ترفض أفعال "الباشا" فى استنكار وخيبة أمل، تود لو تفصح عن غضبها بوجه لكنه والدها الذى تحبه كثيرا، ترفض وجهه الآخر.
ترى صابر بمثابة الفارس الأشجع على الدوام، ليست على علم أن له زوجة، وأن الأقدار تخبئ لها الكثير.. ارتياح كان يعتريها حين قدومه لساحة السرايا، حتى أنها كانت معظم الأحيان تنتظره بأبهى صورها بعد التعطر والتزين كما لو كانت تنتظر فتى أحلامها غير مكترثة لأية عقبات أو حتى فروقات، تنظر كثيرا لمرآتها بشرود وفى مخيلتها أول لقاء معه حين أخبرته أن أسمها "شمس" فتابعها مُحدّقا يهمس "شمس الشموس" ومنذ ذلك اليوم يدعوها "شمس الشموس".. تُحب كثيرا ذلك اللقب، تبتسم فى خجل وتحمر وجنتيها مرددة "صابر! أنت تجاملنى كثيرًا.. بكل لقاء كان يبدأ بالتذمر والاحتجاج منتهيا بخجل وحمرة ثم عينان تلمعان بعد هدوء وارتياح.
لكن هناك من يتلصص من شرفته والشرر يتطاير من عينيه، لم ينتبها فاللقاء انتهى بنظرة ساكنة فاضت بالكثير حتى وضع "صابر" وردة بيضاء على جانب خصلات شعر "شمس الشموس" وانصرف، كان آخر اللقاءات بعد أن دبر "الباشا" مكيدة شنعاء لاعتقال "صابر".. كانت شمس تخشى عليه من بطش والدها، تشعر بأن هناك أمر ما يُدَبّر ولا تعرف الميعاد لكنها فور علمها ركضت بهياج واندفاع بحثا عن بيت "صابر"..لم يكن من الصعب العثور على منزله بتلك البلدة الصغيرة، فالجميع يعلم "صابر"..
حين الوصول و الثبات أمام المنزل قرعت الباب وبادرت بالسؤال عنه بلهفة حتى انتبهت لأمراة تحمل بأحشائها جنينا بشهرها الأخير والصدمة تَرتَسم على ملامحها وهى تجيب: أخذوه الآن.. لقد اعتقلوا "صابر"... زوجى... وتاهت الاثنتان كل منها بخيبتها، الزوجة تندب وتنحب، والأخرى هاربة مما مضى ومن نفسها، لا تغادر غرفتها، تقاوم وتنهض بيد أن الحنين يغلبها فتجثو على ركبتيها كالمبتور، والحبلى لن تترك زوجها وإن قُطِعت كل سبل الوصول إليه فعلى مدار سنوات اعتقاله كان الحنين يغلبها هى الأخرى، كانت تقاوم، تعمل، تكسب قوت يومها ورضيعها ينمو وينمو صبيا، تنتظر "صابر".. بعد طول غياب بدأت المراسلات تعرف طريق النور، تُرسل صور الصبى فتُضاء ظلمه أبيه وتَهون عزلته، فموت " الباشا" كان بمثابة قرار العفو عنه لكنه لن يعيد سنوات سُرقت من شبابه، فقط سيعود حرا بريئا كل همه أول لقاء بإبنه... دخل البلدة يبحث عنه ليدله الجميع " إنه هناك بالحقل يلعب مع من لا تود مفارقته " حفيدة الباشا"...
التعليقات