إن أفصحنا عن مكنونات أمورنا لن نسلم لذعة الانتقاد فالغالب على وجوهنا استسلام لكل أمر واقع، لسنا على ما كنا من قبل، لكننا نصمد ونتعافى بصمت، تعاهدنا على ألا نهزم رغم أن كل شىء كان يدعو للهزيمة، حال وقوفى أمام تلك الآلة الأثرية العجيبة ذاعت برأسى جماليات الماضي وما كان يحويه، ليت الحاضر غير قابل للتلف مثله، كل الروعة تتجسد أمامى الآن، اتلمسها بيدى، منذ زمن وانا أبحث عنها، لو أننى وجدتها آنذاك بين آمالى البعيدة، بين حلم ويقظة، ليت المرء يدرك ما يشتهيه بوقته المناسب، لكننى على كل حال جئت بها لبيتى، وددت أن أضعها بكل أركان البيت، تخيلتها على كل جانب حتى وجدت أخيرا المكان المناسب جانب اريكتى المفضلة حيث استحضار أماكن أخرى رغم الثبوت بالمكان ذاته، أتممتُ وضعيتها بشغف وأدرت إسطوانة "البيك أب" لتنبعث إحدى "سيمفونيات موزرات" فينبعث فى نفسى احساسى اللعين، لا أنكر الهروب منه رغم انغماسى الشديد به، دخلتْ هى والقلق ينهش لبها، إنها نحيلة للغاية، نحيلة حد الإستغراب من هيئتها، دائمة الشرود، لا شىء يعجبها، تحدثنى قليلا وتصمت كثيرًا...
- ما هذا يا أمى؟! وما هذه الموسيقى؟!
- حبيبةُ قلب أمك.. هذه آلة الجرامافون، كنت دائمة البحث عنها، اليوم اقتنيتها، هيا حتى التقط لك صورة تذكارية وأنت جانبها...
كانت تظهر فى عدسة التصوير كالهيكل العظمى حين يكسوه الجلد، تبرز عظام المنكبين كالنتوء الملحوظ، كنت أنظر إليها والحسرة تعتصر انحائى، ماذا أصابك يا صغيرتي؟.. كنتِ حسناء البيت، قالوا أنك تشبهين تلك الفنانة المشهورة، وآخرون كادوا يجزمون أنك من بلد آخر بل من عالم آخر، أين ذهبت الفرحة والأحلام؟ كيف انطفأت لمعة عينيك الساحرتين؟.. إن أقسى ما يتعرض له المرء أن يلام على ما لا دخل له به، كانت فترة علاجك من "الجيوب الأنفية" تتوجب دخول "مادة الكورتيزون" جسدك الممشوق لتعطيه "نفخة"
وزيادة لم تكن بوسعك أن تتحمليها وتتحملى معها "تنمر" أناس كنا نعتبرهم من الأصدقاء، كانت تعليقاتهم السخيفة كالأسهم والطعنات الموجعة، لم يكن من المتوقع فتاة تملؤها الحيوية وحب الحياة أن تسقط وتنال منها الوساوس والأفكار، إن سيمفونية موزارت كادت تعزف أوجاع قلبى على ما قد كان، ظلت صفيرتى البريئة تخاف الطعام، تخشى أن تتعذى كالانسان، ترهب الإقتراب من كل ما هو يتسبب فى زيادة وزنها حتى كاد النحول أن يفتك بها.. إنه (فقدان الشهية العصبى) (Anorexia Nervosa).. مرض نادر يصيب الفتيات المراهقات الباحثات عن المثالية والكمال، الراغبات فى النحافة المفرطة إلى أن يدخلن عالم موحش، كالوقوع فى بئر عميق ليس من السهل الخروج منه والتعافى من مضاعفات سوء التغذية، فالجسد يصبح هزيلا، كل عظمة بالجسد يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، يصبحن كالخارجات من المجاعات فى بلاد لا طعام فيها حتى يصل الأمر لدخول المستشفيات بغرف "الرعاية المركزة".. إن الضيق أحيانا ينخر في العظام لكن لا ضيق أسوأ من صوت أجهزة طبية تتصل بجسد ابنتى الضعيف بالمشفى، لا تتوقف عن الصفير طيلة ليلة مظلمة، كانت تنخر فى عظامى وقلبى المتهالك.. أريد أن أمحو من ذاكرتى ليلة قضيتها وانا أتحسس وجهها الصغير، أفزع لمجرد التفكير فى غيابه، رغم مرور الوقت لكنى لم أستطع النسيان والتخطى، لكنها أمامى تتعافى وأحاول التعافى معها رغم أفكارها التى احيانا تنزع الطمأنينة من قلبى نزعا، فلا ترغب الطعام إلا بعيدا عن الأعين، أضع لها حلوتها المفضلة بعيدا تتناولها قطعا صغيرة فى صمت حتى لا يشعر بها أحدا، يوما ما كنتُ أتمنى حين أن أعانقها ألاّ تهمس بآذانى" إنى أتألم يا أمى" حتى دبت الحياة من جديد وعادت الروح للروح حين طالبتنى بتغير الإسطوانة وأن نسمع سويًا عبر الجرامافون سيمفونية "أنشودة الأمل".
التعليقات