لا يؤلم الجُرحَ إلا من به ألمُ
شكواكَ للناس يابن الناس مَنقصةٌ
و من من الناس صاحٍ ما به سَقَمُ
فإن شَكوتَ لمن طابَ الزمانُ له
عيناكَ تغلي و من تشكو له صنمُ
و إن شكوتَ لمن شكواكَ تُسعِدهُ
أضفتَ جُرحاً لجرحِكَ اسمه الندمُ
أبيات صادقة قالها الشاعر الراحل كريم العراقي مست شغاف قلبه أولا وانتقلت إلى كل من قرأها. واقع مؤلم شئنا أم أبينا. نصيحة قاسية تنهال على رؤوسنا من الشاعر فربما هي نتاج تجربة شخصية أو نتاج خبرة حياتية. لا يهم! يحذرنا من أن نشكوا همومنا ومشاكلنا إلى الناس ففي نهاية الأمر لن نحصل إلا على تعاطف مؤقت على هيئة تنهيدة أو بضع دمعات زائفات كنوع من أنواع المشاركة اللحظية ثم سينتهى الأمر. نغادر وينسوا أمرنا برمته. لن يحمل عنا الهم صديق ولن يدعمنا شخص إلا بقدر ضئيل. مهما جادلنا أننا نشعر بآلام بعضنا البعض ونحزن لأحزان من نحب إلا أن الجرح حقا لا يؤلم إلا صاحبه. الجرح مؤلم ومتجدد والناس تنسى وتمل.
كبشر لا نستطيع الحياة بمعزل عمن حولنا. نتعثر فننظر تلقائيا ذات اليمين وذات اليسار علنا نجد من نتكيء عليه ويقيل عثرتنا. نجده أم لا؛ لا يهم لكننا حاولنا. يصيبنا الغم والهم فتختنق العبرات في العيون وتتحجر الغصة في الحلق ويأبى اللسان إلا البوح والشكوى لعل الكلمات تخفف من وطأة المصاب. المستمع صنفان وفقا للشاعر، صنف طابت له الحياة فلا يشعر بالآخرين ويستصغر مآسيهم. تغلي الدموع في عين الشاكي كمدا والآخر صنم لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم. وصنف يسمع وتطيب له الشكوى ويطرب لسماع نحيب الشاكي لحاجة خبيثة في نفسه تترك الأخير وقد ندم لإفصاحه عن مكنون صدره. في نظره أن المواساة عديمة النفع...
هل المواساة يوما ..حررت وطنا
أم التعازي بديل.. إن هوى العَلَمُ
من يندب الحظ ..يطفئ عين همته
لاعين للحظ.. إن لم تبصر الهممُ
يقر شاعرنا الراحل أن لا جدوى من الشكوى فالمواساة المرجوة لا طائل منها ولا نفع يعود من ورائها. لا هي حررت وطنا ولا رفعت علما. يتخذ من الشكوى موقفا صارما فينفر المستمع منها ويحثه على تجنبها. يؤكد أن من يندب حظه يفقد الهمة والعزيمة لتغيير الحال لأفضل منه فالحظ في نظره مرتبط بذكاء حاد ونظرة ثاقبة للهمم.
كم خاب ظني.. بمن أهديته ثقتي
فأجبرتني ..على هجرانه التهمُ
كم صرت جسرا.. لمن أحببته فمشى
على ضلوعي.. وكم زلت به قدمُ
فداس قلبي ..وكان القلب منزله
فما وفاء لخل ..ماله قيمُ
وبقلب كسير يتذكر الشاعر عددا من مرات الخذلان التي تعرض لها من أشخاص منحهم ثقته وحبه فكان جزاؤه منهم جزاء سنمار. قدم نفسه جسرا لمن أحب يمشي عليه ويقيه الذلل فما كان من الحبيب إلا أن كسر قلبه وهدم الجسر. (فما وفاء لخل ماله قيم)!
وبالرغم من كل ما مر به من خذلان وإحباط يظل الشاعر معتدا بنفسه أبيا يأبي الضعف والهوان.
لا اليأس ثوبي ..ولا الأحزان تكسرني
جرحي عنيد.. بلسع النار يلتئمُ
ويخاطبنا في تحدٍ طالبا منا أن نجرع الدمع المر ونقبله كما لو كان عسلا. وينصح بأن نحول الهموم إلى فرس جامح ينقلنا من مكان ضيق إلى آخر أكثر رحابة.
اشرب دموعك واجرع مرها عسلا
يغزو الشموع حريق وهي تبتسم
والجم همومك واسرج ظهرها فرسا
وانهض كسيف إذا الأنصال تلتحم
والأرض موطن ظلم منذ بدء الخليقة. يظلم الناس بعضهم بالقول والفعل. هو صراع أبدي بين ذئب ماكر وحمل وديع يحسن الظن بالجميع ويرى براح الأرض ملكه لكن لهم يوم يجتمعون فيه عند الحكم العدل.
عدالة الأرض مذ خلقت مزيفةُ
والعدل في الأرض.. لاعدل ولاذممُ
والخير ..حمل وديع طيب قلق
والشر.. ذئب خبيث ماكر نهمُ
كل السكاكين صوب الشاة ..راكضة
لتطمئن الذئب ..إن الشمل ملتئمُ
أما الجاه والمال فهما قبلة من يسعى للقوة في كل العالم.
كن ذا دهاء وكن لصا ..بغير يدِ
ترى الملذات ..تحت يديك تزدحمُ
المال والجاه ...تمثالان من ذهب
لهما تصلي.. بكل لغاتها الأممُ
والأقوياء ..طواغيت فراعنة
واكثر الناس تحت عروشهم ..خدمُ
ويؤكد الشاعر لكل من يقرأ أبياته ويسمع كلامه أنه ليس بمعزل عن الهموم والأحزان وأنه يتكلم من موقف المجرب. شكواه لا تختلف عن شكوى مستمعيه. تسيل الدموع دما فتلطخ الخدين.
شكواك شكواي.. يامن تكتوي ألماً
ماسال دمع على الخدين.. سال دمُ
لكن يبقى الله تعالى هو الملاذ الآمن ومأوى لا يرد قاصده. لولا الإيمان بوجود رب سميع عليم بصير لا يظلم عنده أحد مثقال ذرة لساد الفساد في كل النفوس وهوى صبرها وانهارت مقاومتها.
ومن سوى الله ..نأوي تحت سدرته
ونستعين به ..عونا ونعتصمُ
ويختم قصيدته الصادقة أن الإنسان في هذه الحياة مهما صال وجال فليس سوى مخلوق من العدم وإلى العدم يعود. الحروب الواهية على الأرض بين البشر مآلها إلى زوال. على كل شخص أن يتحلى بالحكمة والرزانة ورجاحة العقل وأن يعرف متى يختار معاركه وما الجدوى منها في المقام الأول. لا خير في الاندفاع والرعونة وهدر الطاقة والوقت في العدم! رحل الشاعر كريم العراقي عن عالمنا مريضا كسيرا وبقيت كلماته تقطر صدقا وحكمة. أتذكرها كثيرا فلا يسعني سواء الدعاء له بالرحمة فمن غزل مثل هذه الدرر لم يذهب إلى العدم.
كن فيلسوفا ترى إن الجميع هنا
يتقاتلون على عدم وهم عدم
التعليقات