أنتِ تعزفين على البيانو باقتدار أتملكين شيئاً جميلاً آخر آنستى؟.. قالها فى إنجذاب و شىء من الإنبهار ردت فى استحياء: أتقصد معزوفة اخرى؟
لا أقصد شيئا بذاته، لكنكِ تنزعين البؤس نزعًا من قلبى حين تنساب أناملكِ و يبدأ انسجام أصابعك بأصابع البيانو بينما أتوه بين كليهما.. سكتَ قليلاً يسدد النظرات مودعًا لقائه ب "تحياتى آنستى"، و انصرف فى تؤدة و اعتزار، إنه "اليوزباشى راشد" إعتاد التردد ليلاً عطلة نهاية كل أسبوع على الفندق المطل على ضفاف النيل، غير أن هناك مأموريات يغيب بها عن الظهور قليلا حتى المعاودة و متابعة آنسة البيانو التى طالما تسلب لبه وتجذبه لصالة الفندق الرئيسية حيث الحفلات الكلاسيكية الضامة لصفوة المجتمع، كان حديثه الأول معها قبل أشهر قليلة من التعارف و اللقاءات التى أحدثت تقربًا و ميولاً عاطفية لكلا الطرفين، ففرحة تُقْرأ فى الأعين تفصح عن المكنون... على صعيد آخر هناك بشقة حى الأزبكية تنبعث روائح المسك والبخور عند نهاية عقب الباب، إن رنوتَ على بعد خطوات منه ستجد بابًا ألوانه كنقوش جدران المعابد ينتصفه كف أزرق تنسدل منه أشياء صغيرة لا يمكنك أن تميز عن بعد إن كانت هى الأخرى كفوفا صغيرة الحجم جدًا أو هى فضيات و قروش نحاسية اللون غريبة الشكل، عند المجازفة والولوج من باب تلك المغارة المبهمة تدخل مثل حال تائه فى بيت الأشباح، أينما نظرت تجد العُجَاب، رجال يرتدون "الجلباب الأبيض البلدى"، قرع طبول و دفوف يعلوه صوت صاجات مذهلة، نساء يرتدين عباءات مزركشة بالخرز ذات طابع مُبهرج الألوان، تجوب بعينك تشاهد عقودًا منسوجة من الاصداف و الأحجار الغريبة، خلاخيل و أساور تملأ أيادى و أرجل النساء، تمائم، أصوات و صراخ ينتشر بالمكان و ها قد بدأت "الحضرة"، بالمنتصف امرأة تصرخ كأنها فى عراك مع الحياة، تبدأ بالتمايل يمينًا و يسارًا حتى يغدو التمايل هستيريًا، تعلو الصرخات أكثر فأكثر، تزداد حولها الاغانى المريبة، تفوح رائحة البخور و هناك أضحية يتم ذبحها أمام المرأة المقام من أجلها الحفل الصاخب، إنها قربان لترضية "الأسياد" كى يتركوها و شأنها، ما من أحد طرق باب سرايا والدها ليتقدم لخطبتها بعد أن طلقت من زوج كان دائم النفور منها، إن والدها إقطاعى ثرى لكنه دمث الخلق، لا يترك فقيرا ينهشه الجوع و الحرمان، كان دوما على استعداد لترضية "الكودية" و إغداقها بالأموال، حتى تتعافى ابنته و بمعتقد أدق "ترضى عنها الأسياد" حتى تتزوج و يقربها رجل لا ينفر منها...
اقترب موعد إجازة "اليوزباشى راشد" وحانت اللقاءات تتجدد عطلة نهاية الأسبوع، بعد معزوفة كلاسيكية كانت الأروع بين سابقات المعزوفات، لاحت تتلألأ كالوميض نياشين بدلته العسكرية بساحة الفندق، صفق الجميع للمعزوفة وخرجت إبتسامة بين شفاه "اليوزباشى" تعلن عن شىء دفين رغم الإفصاح بالقليل إلا أن سعادة غمرته عند اللقاء، راحة تفيض بين راحة كفيه حين السلام و تحية العينين، إن "آنسة البيانو" على موعد مع السعادة، غادرت الفندق تفر لبيتها بانهماك و تخيلات، تعض على شفتيها فى شرود ملحوظ حتى انتهت الابتسامات و أحلام اليقظة حال الوصول للدار غريب الأطوار، إنه منزل "الكودية" ..
لا أحد بالحى كله إلا و يعلم من هى الكودية الشهيرة الوافد إليها كافة أنماط مجتمعية تؤمن بغرابة أفعالها، تصدقها على كل حال، يرفد لها العاجزين، المتعبين، المنهكين من الحياة، و فى المعتقد السائد سَيَفْرغون من طاقات سلبية و منغصات تفتك بهم فى مفترق طرق كانت نهايتها صوت الكودية تتغنى بترانيم تدعو للرقص مع الحياة، إن "آنسة البيانو" لم تكن على موعد مع السعادة كما زعمت حين أخبرت والدتها "كودية الزار" تلك الشهيرة المغضوب عليها من قبل "قسم شرطة الأزبكية".. حين دارات الأحاديث الطويلة بين الأم و الابنة، الخوف يجتاح الأخيرة، إن كان "اليوزباشى" جادًا فى الإرتباط بها كيف سيتقبل فكرة عمل والدتها؟!.
الأمر مريب لكن "الكودية الأم" تقسم لها أنه لن يتخلى، العاشق يتفانى من أجل المحبوب... لم تكن على دراية بالوجه الآخر "لصاحب النياشين" صاحب المقام الرفيع الذى انتزع قلبه و ما يحويه متوجهًا لبيت "الكودية" بليلة طال انتظارها من جانب "آنسة البيانو"، كانت عيناه تنظر فى حدة مع وجوم وجهه، خطواته واثقة تعرف طريقها، ثابتة تُحدِث أصواتًا مخيفة عند صعود الدرج يسمع حسيسها كل من بالبيت، لقد جاءت اللحظة الحاسمة، موعد مع القدر، دخل "اليوزباشى راشد" حتى يضع الأساور الحديدية بدلاً من الأساور الذهبية بيد "آنسته"، حبست دموعها و أنفاسها، ظلت تنظر له، تملأ صورته الأخيرة ذاكرتها حتى لا تنسى أبدا... كل من بالبيت تم
تم القبض عليه بتهمة ممارسة الدجل و الشعوذة و أمور النصب على المواطنين، لكن التحقيقات لم تصل لشىء فلم يسبق أن روى أحدهم أى ضرر مادى لحق به من قبل "الكودية" و فريقها المنشود للعدالة، بل إن الجميع يعتبره ترويح للنفس لا للهلس...
كانت تلك القضية من القضايا التاركة فى نفس "اليوزباشى" أثرًا نابضًا حيًا ذو ملامح مجهولة، "فآنسة البيانو" كانت قضية لم تنتهى بعد، من حين لآخر يذكرها، تخطر بذهنه رغما عنه، يسرح بخياله كيف اوقعها فى شباكه حتى تم القبض عليها، حتى بعد أن تزوج من إبنه الحكمدار "السيدة كوثر"، كان دائم البحث عنها بعد أن تركت منزلها و استأجرت منزلا آخر تبدأ فيه من جديد و تصبح هى "الكودية الرئيسية" بدلا عن والدتها...
-اليوم شديد البرودة لكنه عطلة نهاية الأسبوع، هناك بدور السينما فيلمًا لقيثارة الغناء السيدة "ليلى مراد"، تَنمقَ ببدلته العسكرية والنياشين تلمع بالظهور أعلى كتفه بعد الترقية الجديدة، اتجه لمشاهدة الفيلم الجديد و "ابنه الحكمدار" تهيأت برداء سهرة، يتهدل على كتفيها "الفرير"معطف أسود مصنوع من الفرو الطبيعى ليضفى كلاسيكية ذو طراز خاص و على الجانب الامامى من رأسها وضعت "شابوه" غطت الأجزاء المتدلاه منه جزءًا من جبينها اللامع، و فى إستراحة قصيرة بالفيلم جاء صوت نسائى من الصف الخلفى يهمس باقتراب مقصود للزوجة فيربكها أمام زوجها الذى أدار وجهه فى استغراب و دهشة، إنها هى!!!.. تقترب من أذن زوجته قائلة : كوثر هانم! اوعى تنسى معاد "الحضرة" بكره الصبح.. كلنا هنكون فى انتظارك.. سهرة سعيدة.
التعليقات