هناك بالمقهى الفرنسى الشهير أشارت للنادل لتجهيز قهوتها المعتادة وشردت فى الجانب الآخر تلاطفه بعينين لامعتين وابتسامة أهداها القدر وحملها نحو طاولته فابتسم هو الآخر فى تودد لها واقترب...
- أراكِ اليوم شغوفة بما كنتِ تزهدينه بالسابق (يحرك الكرسى من أمامها) أتسمحين لى بالجلوس؟!
- هههه لقد جلست بالفعل، أظن أنك تفضلها دون سكر.. أشارت للنادل ثانية ليأتي هو الآخر مبتسمًا متحدثًا العربية بلهجة الخواجة وتبعثر الكلمات التائهة والمختلطة بالفرنسية
- النادل: أنا أأرف كووول خاجة تخبها أكييد قهوة مفيس سووكر
يضحكان للنادل ويعاودان صمت تتبعه الأحاديث...
- وكيف أقمت مشروعك يا "عمر" هل انتهيت منه بعد؟
- عمر: ليس مشروعى بل حلمى الذى بدأ يرتَسم أمامى كما كنتُ أتخيل وأخطط، لقد بدأت من القاع وأعتقد أننى فى طريقى للقمة.
إن طريق القمة بدأ يخطو خطواته الأولى عند عمر وبسرعة البرق، صحيح أنه لا ينكر ما قدماه له والده وأخاه الكبير بعد بيع قطعة الأرض الصغيرة والمميزة لديهم من أجل إعطائه تلك الفرصة لكنه ظل يحاول أن يتخطى كيف خرج من عنق الزجاجة بعد أن ارغماه على الزواج حتى لا يضيع ببلاد الغرب ظنا منهم أن الزواج سيعصمه من الوقوع فى المحرمات، كان مقيد بشرطهم حتى استطاع الإفلات والهروب من حصار الفِكر الزائلة معانيه، أفلت من عقولٍ مغلقة لا يملؤها سوى فراغ الأفق وسوء الظن، وحصل على لقب مطلق فور وصوله للبلاد البعيدة ببدلة العرس..
-عمر: وماذا عنكِ أنتِ يا "ليلة" كيف حال دراستك؟
- ليلة: منذ وصولى هنا وأنا فى سعى واجتهاد حتى أحصل على الماچيستير، ما يؤرقنى فقط هو اضطرارى لتغيير عنوانى ورقم هاتفى حتى لا تستطيع أمى التواصل معى..
تسرعت "ليلة" كثيرا حين تركت لوالدتها خبر انفصالها وقرارها السريع بالطلاق، لكن لا وقت لديها لتحمل ضغوط أو أيه مهاترات، كان لابد لها من عدم المصارحة حتى لا تنفجر رأسها من ردود الأفعال، فكل ما كان يطارد أحلام والدتها ليلاً كيف ستنتقل "ليلة" لحياة أخرى ببلد تقع بقارة أخرى دون رجل يرعاها، يساندها وقت الاحتياج.. إن "ليلة" مختلفة، قادرة أن تدعم نفسها بنفسها، ناضجة حد الغرور، ليست من أنصار أن تتلخص المراعاة والمساندة فقط فى رجل.
- عمر: كان عليكِ ألا تخبريها بما حدث ودعيها وشأنها بأفكارها لسبيل راحتها واطمأنانها عليكِ.
- ليلة: ولم الكتمان والعيش تحت ضغط قد يولد الانفجار؟ يخطر ببالى آخر حديث بيننا ( تسكت فى شرود وصمت طويل كأنها ترى ما لا تبصره العين) ليلة: كيف سأتزوجه يا أمى بهذه السرعة؟ أنا لا أعرفه، لا أعلم عنه شيئا سوى أنه إبن جيراننا المحترمين.
- الأم: مثل ما قلتِ "المحترمين" ألا يكفيكِ هذا؟
- ليلة: طبعا لا يكفينى.. يا أمى أنا أهابه، أهاب الإقتراب منه، ربما يكون عصبى المزاج، سريع الغضب، محب لإفتعال المشاحنات، ربما يضربنى إن لزم الأمر، سنكون وحدنا بالغربة.
- الأم دون اكتراث لكلام ابنتها: ستكونين مع زوجك بالغربة وسيصبح هو كل عالمك، كفاكِ كلام الصغار صرتِ ناضجة وستكونين زوجة عما قريب.
- ليلة دامعة العينين: والحب؟ أين من كل ذاك؟ وإن خاننى؟
وإن خنته؟ وإن عصفت بنا الحياة وأمسينا بطريق مظلم، لا يطيق كل منا النظر بوجه الآخر.
الأم محتضنة ابنتها: اتركى الأمر لصاحب الأمر، ستكونين بخير، أنا اعلم، ستكونين بخير.
-ليلة باكية: لا يا أمى أنا لستُ بخير... ( ظلت صامتة تنظر للبعيد حتى أخذ عمر يلوح بيده قائلا...)
-عمر: هااااااااى أين أنتِ ؟
- ليلة: هااااه لا شئ،، تذكرت عملى الجديد، يأخذ منى الكثير من الوقت وأنتَ تعلم أننى قريبًا سأناقش رسالة الماچستير التى سافرت وغامرت من أجلها.
- عمر محدّقا عيناه: ألا تعتقدين أحيانا أنهم كان لديهم حق؟
ليلة محركة مقلتى عينيها يمينًا ويسارًا: تريد الحقيقة؟
عمر: أجل.. الحقيقة أن بعض الكلام حِكمة وواقع.
ليلة تتنهد حائرة: مرت علىّ ليال شعرت فيها بالوحدة، الخوف، الرهبة من بلد لا أعلم أحدًا فيها ولا أحد يعلمني، ماذا لو مرضت؟ أحيانا أمقت عنادًا لم أتخلى عنه يوما، أتذكر حديثَ أمى.. أريد أن أكون بخير وأخبرها بذلك.
عمر: إنكِ تعانين بؤسا كنتُ أعانيه وأنا أشرح لأبى كيف سأتزوج من فتاة لم أتأمل حتى ملامح وجهها، لا أدرس شخصها المجهول أمامى، يمكن أن تكون إمرأة ناعمة تلدغ كالحية بهدوء الغامضين، ربما تدسُ السُم فى الطعام فينتشر بالجرائد صباح اليوم التالى أخبار عن إنتحار "عريس" لم يستطع ال....
- ليلة تفتح عينيها حتى ارتفع حاجبيها لأعلى جبينها: ما كل هذا يا عمر ألهذا الحد أنت شخص تشاؤمى؟ أعتقد أننى أكثر منك عقلانية، كانت كل كارثتى تنحصر فى إنعدام التفاهم والحب.
- عمر: أبى كان يتهمنى بالتشاؤمية المفرطة، حقا إن التشاؤم كان من الممكن أن يصنع منى إنسانا مهزوما، كيف لفكرة واحدة أن تنسج كل تلك اللاواقعية المتطرفة، فى الحقيقة أننى تذوقت الوحدة فى بلاد الغربة وهذا كل ما أعانيه الآن.
ليلة تضحك: هذا اعتراف رسمى منك بالهزيمة.
عمر: لم أعتاد أن أُهزم يا ليلة، يمكن تعديل الأمر بدلاً من الهزيمة بالبصيرة.
ليلة: ههه الإعتراف بالحق فضيلة.
عمر: الحق أننا اخترنا ما نحن عليه الآن بمحض إرادتنا، احترم كل منا الآخر، اعترفى أننا كنا رائعين.
ليلة: من يصدق أننا "العروس والعريس" البائسان اللذان تطلقا بيوم عرسهم بكامل العقل.. عقل ماذا ؟! هذا جنون، نحن الآن على نفس الطاولة نحتسى قهوتنا ببرودة اعصاب نُحسد عليها.
-عمر: ليس من المهم من يصدق ومن لا يصدق، المهم.. ااااه (أخرج من جيب سترته علبة صغيرة بها خاتم الزواج وتنحنح بارتباك) نتقابل يوميا بالمقهى ويوم تغيبين أنظر باتجاهك والفراغ هنا فى قلبى.. بكامل إرادتى أريد الزواج منك..
تصمت "ليلة" لحظات حتى هزت رأسها فى هدوء يشير إلى الرضا.
التعليقات