في طريق عودتي من القاهرة إلى الإسكندرية بالقطار أئتنس بالطريق الزراعي. بين المدن والقرى الصغيرة ترتاح عينيي بتتبع اللون الأخضر على مد البصر، تلك المزروعات البهية التي أُشاطرها الونس والصحبة الطيبة.
غالبا في كافة الأراضي الزراعية ستجد شجرة ما هنا أو هناك تقف وحيدة على رأس الغيط أو أحد جانبيه، تحتها تقبع تعريشة صغيرة، هي مكان استراحة المزارعين في وقت الظهيرة.
أشجار الريف غالبا ما تكون من الأنواع القوية الغير مزهرة ذات تيجان خيمية خضراء كثيفة، شديدة التحمل ولا تحتاج لخدمة وعناية كبيرة، مثل الكافور والفيكس.
تلك الكائنات الجميلة تقف لعشرات السنوات تؤدي الغرض الأوحد الذي زرعت من أجله وهي "أن تبقى ظلا لأحدهما".
ربما أشجار الريف هذه لا تتحدث ولا تعبر عن نفسها، لكنها بالقطع تشعر وتتألم.
وددت لو توقف القطار لأنزل منه وأتحدث إليها، أريد منها إجابات على أسئلة كثيرة تدور في عقلي وتفطر قلبي.
منذ متى وأنت واقفة هنا يا صديقتي؟ كم شخص مر عليك أو جلس تحت ظلك وحمد الله على وجودك؟ هل هناك من يرعاك يا جميلتي؟ متى كانت آخر مرة وضع لك أحدهما بعض الاسمدة التي تساعدك على إقامة حياتك؟ وهل هناك أحدا ما قد فعل هذا يوما لك، أم اعتدتي يا عزيزتي أن يد الوَحشة والإهمال هي زائرك الوحيد؟
أريد أن أسألها عن كم الأحاديث التي سمعتها، كيف كان أداء أصحابها؟ كيف تحملت غباء وصلافة البشر؟ كيف تقف بكل هذا الكبرياء وكل تلك القوة، رغم علامات تقدم السن وآثار التدرن على ساقها وتجعد أوراقها التي طالها الغدر والإهمال؟ هل أنت راضية عن قدرك أم لو خُيرت كنتي تفضلين أن تكوني إنسانا؟
أود أن أقول لك يا صديقتي، ربما لا أحد يشعر بك، لكني أراك وأحبك وانتظرك كلما ركبت القطار وأقدر دورك في حياة الكثير من الناس.
لقد كنت ولازلت مصدر السعادة والقوة لقلبي. السعادة لأنك بهية، أبية شامخة وارفة الظلال. أما القوة لأنك الصامتة الصامدة التي لا تتغير ولا ترتحل.
ياليت البشر جميعا يتعلمون القوة من أشجار الريف، تلك الكائنات التي تستحق كل إجلال وتقدير.
أعرف الكثير من البشر لا تتعدى حياتهم سوى مثل دور بعض الحشائش الموسمية التي تتطفل على غيرها من النباتات وما هو إلا موسم نمو واحد تجف وتترك لنا بذرتها الضارة لتستمر في النمو بين أشجارنا وتقتات على غذاء قلوبنا، يصيبنا الكدر من انتشارها ويستحيل مقاومتها أو تمام التخلص منها.
الكل يتحدث عن دور تلك الحشائش ليس لأهميتها، بل لمقدار الضرر الذي تحدثه في محاصيل قلوبنا.
أما أشجار الريف "صاحبة الظل الجميل"، فغالبا ما اعتاد الجميع على بذلها فأصبح فرض عين عليها العطاء طوال العمر دون مقابل ودون أن تكون مرئية.
يا صديقي العزيز الذي يقرأ كلماتي، ابحث عن أصحاب الظل الجميل في حياتك. تعود أن تحاكي الفقد حتى لا تعتاد النعم. تَفَكر في كم الظل الذي يقيك الحر والوحدة والوحشة ولا تعتبره حقك المكتسب في الحياة.
نحن لا نستحق النعم لو لم نحمد وجودها في الحياة. هذا الظل الطيب الذي يخيم على أعمارنا بالكثير من الأنس والود والجمال أطال الله بقاءه .
سأظل أحمد الله على كل نعمه، لكن هناك نعمتان مختلفتان قادرتان على تغيير حياتنا، هما نعمتي البصر والبصيرة.
وهبنا سبحانه تلك الأعين للتمتع بالجمال وحسن تواجد تلك الكائنات الحبيبة في حياتنا اليومية. لا عجب أن نرى كل يوم عميان مبصرين، لا يغادرون شاشة هواتفهم المحمولة، يتنفسون الضيق في كل لحظة غافلين أن الجمال من حولهم في كل طرفة عين.
أما نعمة البصيرة فهي الكنز الوحيد الذي يبقيك حي وإن فقدت بصرك وإن تعثرت وإن أدركك يوما اليأس؛ يقود قلبك لحقائق حية حقيقية خُلِقَت لتتعلمها وتُعًلِمها ولتكون لك في يوم ما أثرك وإرثك الباقي من الحياة.
التعليقات