تبدو ثاقبةُ النظراتِ، غير باقى النساء، حادة العينين كما النّمِرَة، ضخامة جسد يجيد فن القتال، لن تلقاها مبتسمة إلا بقليل الأحوال، شرسة تخبئ عطفا يسرى على نفس المنوال..
"آسيا" الشرطية المجتهدة، عَمِلت بقضايا السرقة والنصب لسنوات عديدةة، لم يكن من السهل أن تتعامل مع أول جريمة قتل ضحيتها أخوها الوحيد، وجدته آنذاك ملقيا على الأرض تحاوطته أوراق أشجار جاء خريفها وأسقطها عمدًا فوق دمائه المتدفقة من قوامه الهزيل حتى التصقت بها، كأنها تحنو عليه وتجمع الدماء المفقودة لتعيدها لجسده النحيل فى محاولات فاشلة لإنقاذه.. احتضنته للمرة الأخيرة مغمضة العينين صارخة بكل ذرات جسدها وصوتها العويل، وعويل الرياح حولها يئن، أقسمت على الانتقام حتى يبرد جرح روحها..
ظلت "آسيا" بروح متعلقة بين كابوس لم تنهض منه بعد، وبين سراب تبحث بين ثناياه عن الحقيقة الموجعة، ربما ترتكبين حماقات دون أن تدرى حقيقة الأمر، هناك عدالة وقانون أنتِ تعلمينهم جيدا، لا تتسرعى حتى تتيقنى يا "آسيا"..
كوخ قديم هناك بين غابات تبعد بمسافة هائلة تشعر فيها كالتيه بعرض البحر، تحيطك الغابات من كل صوب وحدب، تكاد أن يصيبك المس حين تصغى لحفيف تشابك أغصان الشجر فما بين صوت الأغصان يتسرب صوت بشرى مثل أن تحلم وانت متيقظ كامل الوعي، وماذا بعد الجلبة وهذا الصياح البشرى الهائج، وأصوات تنم عن توسلات ومحاولات إقناع تنصت لها الطيور قبل أن تحلق فى فزع سريع إثر صوت طلقة نارية أحدثت زعرًا بمحيط الكوخ.. إن الطلقة أحدثت ثقبًا بأعلى كتف ذاك المشتبه فيه، المشكوك بأمره.. "آسر" ذلك الشاب طويل القامة المحتجز بالكوخ منذ مقتل أخو الشرطية، على أية حال فإن الطلقة لم تؤدى بحياته، فقط أحدثت جرحا بعمق الرصاصة التى أخرجها "آسيا" بسكين محمى على النار كنوع من التهديد، مثل قرصة أذن حتى الإعتراف بكل شيئ "فآسيا" لم يهدأ لها ساكن فور تلقيها صورة لذلك الشخص المقرب لأخيها مؤخرا والمتهم بقتله بدافع السرقة فكل الأدلة تشير إليه، حتى أن اختفائه المفاجئ أثار الشكوك حوله، رغم أن الصورة لا تظهر ملامحه بدقة إلا أن ذلك لم يردع "آسيا" عن المضى فى رحلة البحث عن القاتل، حتى وجدته بإحدى الحانات ثملا يداعب الفتيات، يقبلهن بنهم كالمتعطش للقرب من امرأة تشبع حاله، ظلت تتقرب بميوعة فتاة ليل حتى نالت مرادها واستدرجته للكوخ، كأن خدرته بقبلاتها طيلة الطريق، وظلا يلتفا حول الأشجار حتى وصلا وأزاحت كل الزيف عن وجهها، نزعت القناع لتبدى حقيقة الأمر، فذاك الثمل كان يعتقد فى البداية أنها فتاة من طراز خاص، تقوم بتكتيفه بالسرير من أجل متعة على غير المعتاد، يحادثها بثقل لسانه..
- يبدو أنك صاحبة مزاج من طراز يكره الرتابة، أنا أيضا أحب التجديد لكنى مازلت لا أعلم أسمك.
- آسيا.
- يا لمحاسن الصدف آسيا وآسر، أننا نتشابه بالأسماء أيضا،
يخيل إلى أننا نتشابه بالكثير من الأشياء، أيضا أنا لا أفضل الرتابة بمثل تلك الأمور، لكن لماذا تصمتين أكثر مما تتحدثين؟
- اخرس.
- حسنا واضح أنكِ تحبين الفعل أكثر.
- ألا تصمت قليلا؟
لم يفهم "آسر" ما تقصده "آسيا" فقد أفرط بالشرب حتى اغمض جفنيه دون المقاومة..
الوقت يتوالى تباعا على غير إنتباه كم مضى من الزمن، والأيام كفيلة لتغيير ما بالأنفس، أحيانا كان يأت بها هاجس ينتشر بصدرها كأنه الشهيق أنها ليست على الدرب الصحيح، تعطف عليه حتى يدلى لها باعترافات ليست بأكيدة، ذلك العطف حدث رغما عنها، دون كبح الشعور، تستجوبه بالنهار وتهدأ عند جثوم الليل، تقدم له الطعام وتارة تبعده عنه، حتى أن رصاصتها لم يزل أثرها، وندبتها الأبدية سترافقه أعوامه القادمة..
آسر ينظر من خلف ستار النافذة وكتفه مربوط بقطعة قماش بيضاء تتوسطها بقعة دماء ملفوفة على محيط صدره والمكان يعمه الهدوء رغم تناثر محتويات الغرفة كأن زارها الطوفان ثم هدأ فهدأت جميع الأشياء لكنها ليست بموضعها، وبعد طول صمت تحدث "آسر"..
- فككتِ قيودى منذ يومين و تركتينى أتحرك بالمكان كما لو أننى مالكه، هل أصبحت سيد المكان؟ أم أنك هنا السيدة الأولى التى تواضعت مع أسيرها أخيرا ؟
- آسيا تنظر بالاتجاه الآخر عاقدة ذراعيها: السيدة الأولى أخطأت الهدف.
- آسر منتبهًا: ماذا تقصدين ؟
- آسيا: اتصلوا بى اليوم من القسم واخبرونى بالقبض على القاتل الحقيقي وأنه أدلى باعترافاته أمام النيابة.
- آسر: وماذا تنتظرين حتى تخبريني؟ شعورك بالتسرع أم الندم؟
- آسيا فى غرور وهى تسترق النظر لجسده المشعر وفحولته : يمكنك الانصراف الآن.
- آسر فى تعجب: بكل تلك البساطة ؟!
- آسيا بانفعال: كنتُ أشعر ببرائتك لكن أُنظر لتلك الصورة ألا ترى التشابه الذى بينك وبينه؟! هذا قاتل اخى..
- آسر راكضا نحوها واضعا يده على ثغرها: كنت افك القيد اثناء نومك، كان بوسعى الهروب، جلست جانبك وأنت محمومة، تهذين، كنت أضع الكمادات الباردة على جبينك ورأسك حتى تتعافين ثم اعاود قيودى من جديد، والآن تقولين انصرف؟!!
- آسيا ببكاء: كنتُ أراكَ وأتعمد الغفوة، حتى أعلم حقيقتك، أنت الآن حر...
فتحت باب الكوخ بعصبية بالغة لكنه أسرع من ورائها شدها نحوه واغلق الباب قائلا.. لا ... وخيال ظلهما يتعانقان على زجاج النافذة..
التعليقات