بمناسبة اليوبيل الذهبي لانتصارات أكتوبر 1973 والمعروفة بحرب الكرامة العربية كان عليَّ تقديم عمل درامي عن هذه الأحداث، وطبيعي أن يكون خلال هذه الأعوام الطويلة التي مضت منذ حرب الكرامة أن يتم تقديم الكثير من المعلومات عنها وعن أبطالها، لذا كان حري بي أن أبحث عن أبطال آخرين لم تُسلط عليهم الأضواء بعد، وخلال هذه الرحلة بين المراجع وعشرات الكتب والدوريات عثرتُ على بعض المقتطفات التي يمكننا من خلالها التعرف على جوانب قد يكون بعضها خفي عن بعضنا، وقبل أن يطول بنا الحديث، لأنه يطول بدون رغبة منا لكونها أحداث مثيرة وشيقة، دعونا نستعرضها كفقرات على ألسنة عدد من أبطال أكتوبر.
حيث يقول أحد رجال الاستطلاع على الجانب الغربي لقناة السويس:
وكنت أصعد لأعلى البرج بطريقة بدائية، وكان البرج نفسه بدائيًا، بينما كانت الأبراج الإسرائيلية على العكس من ذلك، آلية متطورة، وكل برج مزود بمصعد للمستخدمين، كما يمكن إمالة البرج نفسه - آلياً أيضاً - جهة القناة، لاستطلاع أكبر مدى ممكن على الضفة الغربية، وإعادته للخلف مرة أخرى، لحمايتهم عند حدوث تراشق نيراني أو ما شابه . بينما كنا نحن نسارع بالقفز من أعلى البرج إلى الأرض في مثل تلك الحالات.
ويحدثنا بطل آخر عن موقف آخر فيه معاناة كبيرة تقدم لنا جانب مما عاناه الأبطال قبل حرب أكتوبر، فيقول عن صباح يوم 5 يونيو 67:
وبينما نحن نتدرب على كيفية فك وتنظيف وإعادة تركيب البندقية الآلية 7.62×39 مليمتراً - في طابور على شكل مربع ناقص ضلع - صباح يوم 05 يونيو 1967 م، إذا بطائرات إسرائيلية تمرق من فوقنا باتجاه الغرب . ولم نستطيع لحظتها التمييز : هل تلك الطائرات مصرية أم إسرائيلية ؟ إلى أن وجدنا سيارات عسكرية مصرية تأتي مسرعة من الشرق إلى الغرب، في اتجاه الممرات. ثم وجدنا قائد كتيبتنا ينادي علينا، أن نركب سيارات الكتيبة، وننطلق أيضاً في نفس الاتجاه. ثم ظهرت طائرات الصهاينة مرة أخرى، ولكنها لم تكن عابرة في تلك المرة، وإنما تستهدف القُول ( طابور الآليات ) الذي نسير فيه، وبدأت بقصف أول القول، ونهايته، ووسطه، لإيقافـنا. وتأكدنا أنها طائرات معادية، وبدأنا مع كل غارة، نقفز بعيداً عن السيارات، ثم نعود للركوب بعد انصرافها، وهكذا، لدرجة أنني أصبت من ارتطام الخوذة في رأسي ورقبتي، أثناء تكرار النزول والصعود مرة بعد مرة، ففضلت التوجه لأحد الجبال القريبة أنا وزميل لي .
وهنالك رأينا جندياً من الصاعقة، مصابًا في ذراعه، ونفسيته منهارة مما حدث، فكلما اقتربنا منه أنا وزميلي، ابتعد عنا خوفًا منا . وكانت الرمال قد دخلت حول أقدامنا في البيادات ( الأحذية العسكرية) - مع الجري والسير لمسافات طويلة - فمزقت الشرابات، كأنها نوع من الصنفرة الخشنة، وأحدثت بأرجلنا جروحاً عميقة نازفة ومؤلمة إلى درجة لا تكاد تُطاق . حتى وصلنا بعد فترة، إلى طريق أسفلتي، وظهرت أمامنا سيارة تابعة للجيش فأشرنا لها فتوقفت. وصعدنا على متنها، فوجدناها تحمل مهمات عسكرية، وطلب منا ركابها في المقصورة، أن نخبرهم إن ظهرت طائرات العدو مرة أخرى، ولكن الله سلّم، حتى وصلنا إلى الضفة الشرقية للقناة عند الشلوفة .
ويقول محارب من محاربي الاستنزاف:
وأذكر أثناء حرب الاستنزاف، أنه جاءتنا كتيبة كويتية، لترابط معنا، ولكنهم عادوا من حيث أتوا بعد أسبوعين، لمّا فوجئوا أن هنالك بين الحين والآخر، غارات إسرائيلية تحدث علينا، وتراشق نيراني بيننا وبين الصهاينة، جعلتهم يقولون إنهم يعيشون في جحيم، رغم أنهم كانوا مزودين بتجهيزات على مستوى عالٍ من الرقي والرفاهية، لدرجة أنه كان لديهم طباخون متخصصون لخدمة الكتيبة، فطلبنا من قياداتنا نقلهم، بعدما تبين أنهم عامل إضعاف لروحنا المعنوية. وأذكر أن التعيين لديهم (الطعام والشراب) كان على مستوى الفنادق ذات الخمسة نجوم، بعكس التعيين البسيط لدينا. حتى أننا كنا أحياناً، نطبخ طعاماً إضافياً داخل الوحدة، بالجهود الذاتية، خلال فترات وجودنا على الجبهة.
ويحدثنا ثالث عن بطل الحرب سعد الشاذلي فيقول:
هو البطل الحقيقي لأن هو الذي علمنا، هو العسكري الأول الذي علمنا: كيف ترمي نفسك في رمال الصحاري ولا تخف عليها –من خلال الكتيبات والتدريبات يعلمنا كل شيء لدرجة تمكن الجندي من اجتياز الطريق دون بوصلة وكيفية يتصرف دون ماء وكيف يبحث عن الماء ويجده، كان قائدا "ولد ليحارب" وكان من ذكائه العاطفي أنه لا يوجه اللوم بشكل مباشر ومثال على ذلك أننا كنا في الفصيلة نرتدي السترة خارج البنطلون وهو يجب ارتداؤه من الداخل، وكان يعلم مَن نحن وما دورنا الحساس على الجبهة وكيف ننام وكيف نعمل أنا وجنودي، فكان لا يوجه إلينا اللوم مباشرة بل يلوم جندي آخر على عدم ارتدائه السترة من الداخل دون أن يلتفت إليك، ولم يوجهني قط بشكل مباشر، فيقول للجندي في ابتسامة "انت مش مدخَل ليه السترة ومش مأفَز؟" على عكس تصرفات معظم القيادات الأخرى.
ويحدثنا بطل آخر عن أحداثه مع نهاية يوم 7 أكتوبر 73 فيقول:
مع نهاية يوم 7 أكتوبر كنا مجهدين للغاية فجمعت أفراد جماعتي بعد صلاة المغرب وفي طريقنا مررنا بمنزل لفلاح بسيط فدعانا للإقامة في حوش منزله وأحضر لنا الماء للاغتسال وقدم لنا العشاء لبن رايب وفطير فلاحي رغم تأكيدي له بأنه معنا ما يكفينا من طعام، مع العلم أنه قد يكون لا يملك عشاءه هو، فهذه المنطقة كانت عبارة عن مزارع وجناين يقطنها فلاحين فقراء للغاية. وأخبرته بأننا سنقيم الليلة فقط، وأقمنا الليلة بالنوم في مركبتنا في حوش منزله.
الحديث والحكايات كثيرة ويمكننا الاستمرار في سردها لنخط مجلدات، ولكن نكتفي بهذه الإشارات التي تأخذنا إلى قلب الحدث، لعلنا في وقت لاحق نستطيع كتابة سلسلة متكاملة عن بطولات حرب الاستنزاف وأكتوبر المجيدة.
التعليقات