في مجموعته القصصية "ضلع هايك"، يفتح الكاتب والقاص سمير الفيل بابًا واسعًا على ذاكرة الحرب، تلك التي لا تندثر بانتهاء القتال، بل تبقى عالقة في النفوس، تتأرجح بين الحنين والأسى، بين الانتصارات والمآسي، وتُطل برأسها في كل منعطف من الحياة اليومية.
يحمل عنوان المجموعة وقعًا عسكريًا لافتًا؛ فـ"ضلع هايك" هو أحد المصطلحات المستخدمة داخل الجيش، لكن سمير الفيل يحمّله دلالات إنسانية واسعة، فالعنوان هنا يتحول إلى رمز للتجربة البشرية في لحظة استثنائية من التاريخ "زمن الحرب".

تضم المجموعة عددًا من القصص القصيرة، من بينها: المفتاح، زيت وخل، العكاز، طلع هايك، طلقة مكذبة، الفلوس، وغيرها.
تدور معظم هذه القصص في فلك الذكريات، وبشكل خاص ذكريات الجندي – البطل – الذي عاش تجربة الحرب بكل تفاصيلها: الزملاء، المعارك، المواجهات، والبطولات. لكن ما يميز "ضلع هايك" هو أن هذه الذكريات لا تُستدعى بحنين عاطفي، بل تُطرح بوعي نقدي يتتبع أثرها على الحاضر.
يمزج سمير الفيل في أسلوبه بين الواقعية التي تلتقط أدق التفاصيل من الواقع العسكري والاجتماعي، وبين الرمزية التي تمنح الأحداث عمقًا فلسفيًا وإنسانيًا.
شخصيات المجموعة ليست أبطالًا خارقين، بل بشر يعانون من فقدان المعنى، وصعوبة التكيف، وأحيانا خيبة الأمل.
بعضهم لم يتغير، لكنه فقد بريقه، والبعض الآخر تبدل تمامًا، وتحول إلى نقيض ما كان عليه.
وهنا تكمن قوة القصص: في قدرتها على الغوص في التحولات النفسية والاجتماعية لشخصيات خرجت من الحرب بجراح لا تُرى.
"ضلع هايك" ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي وثيقة أدبية صادقة توثق لتجربة جيل عاش الحرب، ثم عاش ما بعدها، حيث المواجهة الكبرى لم تعد مع العدو، بل مع الذاكرة والخذلان وتبدلات الزمن.
سمير الفيل يقدم في هذه المجموعة عملًا إنسانيًا بامتياز، يذكّرنا بأن الحروب لا تنتهي بإلقاء السلاح، بل تبدأ من جديد في دواخل من خاضها.
ففي قصته الأولى، المعنونة بـ "المفتاح"، نجده حائر، لا يستطيع الوصول إلى المفتاح الصحيح، ثم لا يستطيع تحديد في أي طريق يسير، ومن بين عبارات القصة الكثيرة، المُعبرة، نجد الكلمات التالية: "هذا الناسك الذي يروض الكلمات لتمنحه أسرارها، يقف عند منعطف طرق، ليسأل نفسه: أي الطرق أسلك"!"
وهذا البطل الذي يحمل بداخله كل هذا الحب لتراب هذه الأرض التي دافع عنها، وشهد دماء الرفاق ترويها، كما يتبين لك عبر القصص التي تعود إلى هذه الأيام، أيام الحرب، يأتي في قصة "طراف"، ليبدأها بكلمات تُدمي القلوب، حيث يقول:
- نزل طراف إلى الشارع، بعد أن اغتسل، وارتدى ثيابًا نظيفة. نزل وقد سكنت الحسرة قلبه لأن ابنه الوحيد سافر بتأشيرة مزورة إلى إحدى الدول الأوروبية المهتمة بحقوق الإنسان.
لقد توقفت طويلا أمام كلمات "الحسرة – تأشيرة مزورة – حقوق الإنسان"، فقد لخَص المأساة كاملة بهذه الكلمات القليلة، وستدرك أهمية الكلمات مع امتداد تأثيرها وهو يخبرك بأن الابن المُعرض للوفاة أو للسجن هو طبيب شاب يهرب بحثًا عن عمل مناسب لإنسان، ثم وهو ينتقل بك إلى أن مصلحة الضرائب تستدعيه للمحاسبة على شقتين: واحدة يعيش فيها والثانية لابنه صابر..!!
وهكذا حتى يصل بنا الكاتب سمير الفيل إلى قصة ختام المجموعة وهي بعنوان "طلوع السلم"، حيث يعرض في كلمات مُعبرة للغاية كيف كان وكيف أصبح، حينما يقول:
- لم أتمكن من صعود السلم دون الإمساك بالدرابزين.... منذ ثلاثين عاما فقط، كنت أصعد نفس السلم في وثبات خاطفة.
سمير الفيل كاتب وقاص مصري متميز، من مواليد محافظة دمياط 16 يناير 1951م. يُعد من الأسماء البارزة في القصة القصيرة العربية، وقد أثرى المكتبة الأدبية بعدد كبير من المجموعات القصصية والروايات والمقالات النقدية. عمل مدرسا فوكيلا فناظرا لمدرسة الإمام محمد عبده بدمياط، ثم موجها للمسرح.
تميزت أعماله بالاهتمام بالواقع الاجتماعي، والتقاط التفاصيل اليومية، ورصد التحولات السياسية والنفسية التي تمر بها الشخصيات العادية في بيئات مصرية أصيلة.
نال العديد من الجوائز والتكريمات الأدبية مثل: جائزة الدولة التشجيعية، جائزة ساويرس للقصة القصيرة، جائزة الملتقى للقصة العربية بالكويت.
ويُعرف بأسلوبه السلس العميق، وقدرته على بناء شخصيات واقعية تنبض بالحياة، وتترك أثرًا طويلًا في ذهن القارئ.
التعليقات