حينما أبدأ في قراءة عمل أدبي، أنتظر لحظة الشعور بالشخصيات والأحداث، وغالبًا ما تأتي هذه اللحظة بعد قراءة عشر صفحات تقريبًا. فإذا ما أتت بشكل حقيقي أستشعر مذاقه، فهي إشارة إلى أني أمام عمل أدبي يستحق القراءة حتى نهايته. أما إذا لم تأتِ، أو بدت باهتة، فهي تُعلن عن قرب ترك هذا العمل وعدم الاستمرار في قراءته، والأمثلة على ذلك كثيرة.

من ذلك ما فعلته معي هذه المجموعة القصصية المعنونة بـ "راوتر شيخ البلد"، للكاتب د. عاطف عبيد. حيث يأخذك الكاتب بهدوء عبر نهر أدبي هادئ، لتجلس إلى جواره على "المصطبة" في هذه القرية الصغيرة، تُنصت إلى حكاياته مبتسمًا. ولا تعلم أن داخلك المبتسم هذا ينتظر طُرف وظرف وخفة ظل في الحكايات التالية، وهو بذلك يحقق، بدون إشارة، أحد أهم أهداف الأدب وهو "الإمتاع". ثم هدف آخر تشعر به دون الحاجة إلى المصطلح الأكاديمي الدال عليه، وهو "المؤانسة". هذه الأهداف تتحقق وأنت تشعر بدفء الحكي وراحة الجلسة، وتملأ صدرك من هواء الريف المنبعث من بين حكايا هذه القرية الصغيرة التي يقدمها في بداية المجموعة القصصية بقوله: "لا تبحث عن هذه القرية على خرائط جوجل، فكل الحكايات خرابيش مبعثرة على جدار روحي البحري، ولا تسأل عن طريقة ترتيب القصص في الكتاب، فلا توجد خرابيش مرتبة".
الريف الذي يقدمه القاص د. عاطف عبيد، أشعر به، ويشعر به كل مَن نشأ في الريف. والأديب، ابن الريف، من حيث لا يدري، يُقدم بيئته لتراها بهذا البهاء الذي عاشه، وبهذا الجمال الذي حرك مشاعره ليكتب. وهذا ما حرك مشاعري وقلمي من قبل، فكانت روايتي "مطلب كفر الغلابة" بلوحتيها (عمدة عزبة المغفلين – مطلب كفر الغلابة) وأيضًا رواية "أوراق سرية لمراهق"، هذه الرواية التي قدمت فيها عالم المراهقين السري في ريف بحري.
في نهر "راوتر شيخ البلد" الهادئ، تُبحر مع د. عبيد لتقرأ 31 حكاية ما بين أقصوصة وقصة قصيرة، تبدأ بـ "نظارة طبية"، حتى تنتهي بـ "يوميات عيسى مهدي". وبينهما ستجد الأنثى "سعدية وفوزية وهلالة"، وستجد الرجل "كمال ابن خالي، صميدة، عمي حافظ"، وستجد لشركائنا في الكوكب، أعني الحيوانات والطيور، نصيبًا من الحكايات مثل "البغل، فراخ التربية البلدي، الحصان". وبين هذه الحكايات تجد غيرها اللطيف لاستكمال الحالة العامة للمجموعة القصصية، فتجد أقصوصة بعنوان "جلابية فلاحي" تأخذك ببساطة إلى ريف بحري كما باقي الحكايات، ولنقرأها معًا:
"بعد أن مرت سعدية بنصف ساعة، مر علي خضير ابن عمي، مرتديًا جلابية فلاحي. طول عمري أحسد خضير على تمسكه بالغيط والأرض، واليوم ضحكت وأنا متلبس بحسد جلابيته الفاخرة. وبينما كنت مشغولًا في حسد الجلابية باغتني بسؤال:
- إنت شغال إيه في القاهرة يا عاطف يا ابن عمي؟
- شغال استشاري نظم معلومات يا خضير.
- ما تعرفش الماوس الاستعمال عامل كام دلوقتي في مول البستان؟"
وتنتهي الأقصوصة بهذه المفارقة التي تختزل كل ما وصل إليه استشاري نظم المعلومات الذي يُحاضر عن دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز الحوكمة والتدقيق المالي، ويُحاضر في مؤتمرات كبرى مثل مؤتمر "حكومات ما بعد التحول الرقمي" بالدار البيضاء بالمغرب، وغيرها من الأماكن الكبرى والهامة، تختزل كل هذا في معرفته سعر "الماوس الاستعمال؟!". وهو أمر يُذكرني بموقف حدث معي مؤخرًا، ففي رمضان 2025، أخرجت للإذاعة المصرية المسلسل الرمضاني الرئيسي بعنوان "الجيران لبعضيها"، بطولة مجموعة من النجوم، وأُذيع على خمس شبكات إذاعية في نفس التوقيت وهو وقت الإفطار. بذلت جهدًا كبيرًا جدًا في تسجيل المسلسل (30 حلقة)، ثم قمت بعملية المونتاج بنفسي، وهو أمر مُرهق للغاية. عملية إخراج هذا المسلسل كانت شبه مستحيلة لضيق الوقت جدًا، بالإضافة إلى التعامل مع أكثر من عشرين نجمًا وقيادة طاقم عمل يتعدى الثلاثين فردًا، لكني أنهيتُ المسلسل على أكمل وجه، بنجاح تحدثت عنه الصحف والقنوات الفضائية مع نشر صور من كواليس العمل بشكل كبير واسع. وسافرت البلد لقضاء أجازة العيد مع الأهل، فإذا بابن عم يقابلني وبعد السلامات يهمس في أذني: "شوفت صورك مع إلهام شاهين".
هذه البساطة التي رصدها د. عاطف عبيد، تجدها أيضًا في أقصوصة أخرى بعنوان "علبة صفيح"، ولنقرأ معًا:
"ظهور علبة سلمون ماكريل صغيرة في بلدنا يعني أن حالة من التهور أصابت أحد الفلاحين وأراد أن يتشبه بالبندر ويطعم عياله بالسلمون. إذ يفرغ هو بنفسه علبة السمون على ٢ كيلو طماطم وكيلو خيار، فيتيه السلمون وسط طبق سلطة مفخخ بريحة البندر. ثم يرمي العلبة الصفيح بعيدًا حتى لا يعرف الجيران بأكلة السلمون خوفا من الحسد. بعد صلاة الجمعة سمعنا صوت قطة تصرخ صراخ المستغيث، شارعنا كله طلع يشوف مالها. كان دماغها محشورًا في علبة سلمون كبيرة، وبينما كانت تصرخ بشده كان كل من فى الشارع يُفكر: مين اللي جاب علبة سلمون كبيرة؟!"
وتستمر حكايات "راوتر شيخ البلد" التي قد تنتهي منها في جلسة واحدة، لتخرج وأنت في حالة من البهجة.
التعليقات