منذ ثلاثين عاماً تقريباً، في بلدة مثل بلدتي، كان امتلاك لعبة باربي يعتبر حدثاً عظيماً في مجتمع البنات الصغيرات، ودليلاً على مدى حب الأم لابنتها واستعدادها لبذل الغالي والنفيس في سبيل إرضائها وتمييزها عن رفيقاتها. فما بالك لو امتلكت البنت كذلك بيت الباربي ذي الطوابق المتعددة، وسيارتها ومجموعة اكسسواراتها وملابسها العجيبة البراقة- الخارجة عن الحشمة في ذلك الزمان!
ولن أنكر كذلك، أن جزءاً كبيراً من جاذبية اللعبة في عيوني طفلة، كان يتأتى من كونها على مثال المرأة البالغة بتضاريس جسدها وتسريحة شعرها وتعابير وجهها..
غير أن فيلم الباربي الذي كسّر الدنيا في الأسابيع القليلة الماضية وحقق مبيعات تاريخية في شباك التذاكر ادّعى أن اللعبة إنما جاءت على هذا المثال لكي تكسر الطوق المفروض حول البنات، والمتمثل في أن دورهن الوحيد عندما ينضجن هو أن يكن زوجات وأمهات وربات بيوت.
تظن لعبة الباربي في الفيلم أنها شجعت البنات على أن يحلمن بأدوار مختلفة لهن في المستقبل. في وسعهن أن يكن محاميات أو مضيفات طيران أو حتى رئيسات دول أو عاملات توصيل.
لا توجد حدود لما يمكن للطفلة أن تكونه في مستقبلها.
ولا أدري من أين جاءت الانتقادات الكثيرة والدعوات لمنع الفيلم من العرض في الدول العربية بحجة أنه يناصر النسوية ويدعو لإقصاء الرجال من المشهد..
فبعد متابعتي الفيلم بعين المراقب للأفكار المطروحة فيه، وطريقة طرح هذه الأفكار، وجدت أنه يعاني من فوضى في ترتيب الأفكار وإخراجها.. إذ بدا لي واضحاً أن المخرجة ترغب حقاً في طرح عدة قضايا مهمة في الآن نفسه.
إنها مثلاً تريد أن تطرح فكرة معاناة الأم العازبة والعاملة في تربية أبنائها وحدها، وفكرة هشاشة العلاقة بين الأم وابنتها في مرحلة المراهقة، وفكرة التنمر في المدارس، وفكرة نظرة الرجل الدونية إلى المرأة الجميلة، وفكرة تصورات الرجل عما تريده المرأة (فمجلس إدارة شركة الباربي كله من الرجال)، وحتى هناك شخصية "آلان" الذي ربما يكون ذا ميول غير سوية لكنه في ذات الوقت يتمتع بالرجولة والشهامة للدفاع عن النساء حين يتعرضن لاعتداء من رجال أقوياء.
غير أنني بعد فرز هذا الكوكتيل من القضايا، وجدت أن الفيلم يطرح موضوعين أساسيين جديرين فعلاً بالاحترام.
الموضوع الأول، هو أن الباربي تعتقد يقيناً أنها قد ساعدت نساء العالم على تحقيق طموحاتهن المهنية وبهذا يمكنها أن تستريح لحياتها السعيدة هانئة البال، وتستغني عن الرجل نهائياً تقريباً. وهو في حد ذاته طرح مهم بالنظر إلى تدهور العلاقة المشهود بين الرجل والمرأة هذه الأيام وازدياد نسب الطلاق بجنون لم يسبق له مثيل في التاريخ.
فهل اكتفاء المرأة مادياً من خلال تحقيق طموحاتها المهنية يعني انتفاء حاجتها إلى الرجل في حياتها نهائياً؟
يعني بكلمات أخرى، هل دور الرجل في حياة المرأة ينحصر بكونه المعيل لها؟ هل المال هو الرابط الوحيد الذي يجمعهما؟
لقد بكت الباربي كثيراً في هذا الفيلم، وذرفت دموعاً حقيقية، إلى أن أدركت في النهاية أن المرأة لا يمكن أن تعيش بدون رجل في حياتها والرجل لا يمكن أن يعيش بدون المرأة في حياته.
وهكذا تنتفي حجة معارضي الفيلم بأنه يروج للنسوية. وفي الحقيقة أرى أن من يقول ذلك إنما الممتعضون- بل والخائفون- من رؤية المرأة- كما تمثلها الباربي- جميلة وقوية وذكية ومكتفية مادياً.. وتمضي في علاقتها برجلها بإرادتها الحرة وليس لأنها في حاجة إلى من يصرف عليها.
نأتي الآن إلى الموضوع الثاني، وهو الأخطر شأناً خاصة لما له من أصداء في عالمنا العربي، الذي نعرف جميعاً أنه عالم ذكوري بامتياز (وأقول ذلك بحياد).
نرى في الفيلم اللعبة الرجل "كين"، وهو يلاحق الباربي من مكان لآخر، وحياته ووجوده وكيانه كله متوقف عليها وعلى رضاها عنه وقبولها له. حتى أنه يقول لها في أحد المشاهد إنها هي الأساس.. إذ يتم الترويج لهما على أنهما "باربي وكين"، وليس "كين وباربي".
الفيلم هنا يطرح موضوعاً مهما جداً، وهو أن الرجل إنما يرغب بالحصول على الاحترام من شريكته في العلاقة، وإلا فقد نفسه!
لقد نسيت الباربي في خضم طموحاتها المهنية وحياتها البراقة وجمالها المثالي أهمية وجود "كين" في حياتها.. لقد همشته وقللت من احترامه..
والشاهد هنا، هو لماذا يتربى الرجل منذ الطفولة على أنه يجب أن يحصل على الاحترام والحب من الخارج (أي من النساء في حياته). فإذا لم يحصل على احترامهن فقد احترامه لنفسه وأخذ يبحث عن وسائل متطرفة لإجبارهن على احترامه كما حدث في الفيلم- حيث ظن "كين" أن اهتمامه بالخيل هو مفتاح حصوله على احترام المرأة؟
كان لابد لـ"كين" من خوض رحلة خارج عالمه لاكتشاف أهمية احترامه لذاته أولاً، وتقبله لنفسه، قبل أن يطالب الباربي أو غيرها باحترامه وتقبله.
وها نحن نجد في مجتمعاتنا رجالاً يستمدون احترامهم لأنفسهم وتقبلهم لذاتهم ومعنى رجولتهم في طريقة تعاملهم مع نسائهم في البيت أو العمل. ومن المضحك المبكي- وهذا ما شهدته بنفسي في جلسات التشافي- أن هناك من يفرض على زوجته أداء الصلوات الخمس بانتظام ويشرف عليها بل ويعاقبها إن قصرت.. بينما هو نفسه نسي كيف يتوضأ!!!
وشهدت كذلك حالة أحس فيها الرجل بالضياع التام وأنه فاقد لقيمته وأهميته كرجل في الأسرة، ذلك أن النساء كن ملتزمات من تلقاء أنفسهن بالواجبات الدينية والأدبية المتعارف عليها في الأسرة ومحيطها، بحيث لم يجد لنفسه حاجة في دور المراقب عليهن.
هذه نماذج حقيقية واقعية تحدث كل يوم في مجتمعاتنا. كم من رجل دفعه فقده لاحترامه الذاتي وغياب بوصلته الداخلية إلى الوقوع في فخ الاكتئاب والهرب من ذلك إلى النوم الطويل أو إلى البوبجي والروبلوكس بلا نهاية؟
فيلم الباربي إذن، من خلال معاناة "كين"، أراد أن يرسل نداء استيقاظ إلى الرجل: "لا تربط قيمتك الذاتية بالآخرين" ولا تستمد أهميتك من دورك في حياة أحد.
اشتغل على عالمك الداخلي، وليكن لك كيانك الخاص.. عندما تحترم نفسك أولاً وتدرك قيمتك الذاتية كإنسان لن تعاني بعد ذلك إن لم تحصل على الاحترام من شخص معين في حياتك.
في الختام، أرى أنه الفيلم يطرح موضوعات جيدة جديرة بالاهتمام. وأنه كان يمكن أن يخرج على نحو أفضل بدون البهرج الزائد ومع التركيز على القضايا الأساسية بدلاً من التشتت هكذا في فوضى لا داعي لها.
وعليه، أقيم الفيلم عموماً ب6/10.
شكراً للقراءة حتى النهاية
لبنى عامر
اختصاصية تشافي من خلال تقنيات البرمجة اللغوية العصبية التحويلية
Transformational N
التعليقات