من نافل القول أننا نمر في هذه الأيام بأزمة إنسانية مروعة، تهز كياننا من الأعماق، ولا نملك إلا أن نتابع مجرياتها من وراء الشاشات. وفي أحسن الأحوال هناك من يشارك في تنظيم مبادرات إغاثية، وفي توعية العالم الغربي بما يحدث على أرض الواقع ويختلف عن ما يسوقه الإعلام لهم.
غير أن هذه الأزمة هي حتماً ليست أول ولا آخر كارثة ستحل بالبشرية.. ففي الأمس القريب مثلاً، وقع زلزال مدمر أخذ معه بين يوم وليلة مدناً بكاملها وآلاف الأرواح في سوريا وتركيا؛ ومن يدري ماذا سيحدث لاحقاً.. إنها طبيعة الحياة على الكوكب ببساطة.
ورغم هذه الحقيقة التي لا جدال فيها، تتباين ردود الأفعال والمشاعر والأحاسيس تجاه هذه الأزمات والكوارث من شخص لآخر. وقد رصد علم النفس حالة نفسية اسمها "عقدة الناجي"، إذ يشعر الشخص بالذنب الشديد إن نجا هو من أزمة معينة ولم ينجُ آخرون ممن خاضوها معه.
والأدهى من ذلك أن هذه العقدة باتت تصاحب الكثيرين ممن يتابعون مجريات الأزمات من بيوتهم الآمنة على شاشات التلفاز أو جوالاتهم. وتراهم ينفعلون ويتفاعلون وكأنهم هناك، تحت القصف أو تحت الأنقاض، إلى درجة تأثرت معها حياتهم اليومية وصحتهم وأعمالهم. وإن دل هذا على شيء فهو يدل على الضمير الحي ويقظة المشاعر الإنسانية، وهو أمر جميل جداً ورائع بالطبع.. لكن هل هو أمر إيجابي؟ هل يخدم القضية في شيء، أو يساعد في إنقاذ الأطفال والنساء والرجال من القصف والقتل والأسر، أو هل يحمي البيوت من التداعي فوق رؤوس أصحابها؟
لا بد من التفريق بين احترام أحزان الآخرين وأن تضع نفسك مكانهم، فتصبح على تردد الكارثة والآلام أنت أيضاً. أنا حتماً لا أدعو هنا إلى بلادة الإحساس، أو أن ندير ظهورنا لهم.. بل أدعو إلى الاتزان في المشاعر، والبحث عن طرق أجدى لإغاثة المنكوبين والتخفيف من مصابهم.
عليك أن تدرك بوعي أنه لا داعي للشعور بالذنب إزاءهم لأنهم في مصيبة بينما أنت في نعمة، فهذه سنة الحياة. أليس الله سبحانه وتعالى قادراً على جعل الكوارث عامة وشاملة لكل الكوكب كما حدث يوم طوفان سيدنا نوح عليه السلام مثلاً؟ لكن حكمته جل جلاله اقتضت غير ذلك. فلا بد من وجود أناس بعيدين عن الكارثة وتأثيراتها المباشرة، أناس بصحتهم وعافيتهم ومالهم وأملاكهم وعلمهم وأدواتهم، حتى يساعدوا ويبادروا ويغيثوا وينجدوا ويلحوا بالدعاء إلى الله سبحانه من أجلهم.. وحتى يعطوا الأمل للمنكوبين بحياة أفضل.
غير أن هناك فئة معينة من الناس، لا أدري مالذي دهاهم حتى انتشروا يراقبون صفحات المشاهير والمؤثرين على السوشيال ميديا، ويهاجمونهم ويدعون إلى مقاطعتهم إن لم ينشروا شيئاً عن مايجري في غزة الآن. لقد شنوا حرباً على حريات هؤلاء الشخصية، ويريدون أن يملوا عليهم ما ينشرون وما لا ينشرون، وما يقولون وما لا يقولون. لا بد من احترام خيارات الآخرين في الحياة، وليس من الضروري أن نتفق معها أو نوافق عليها.. فقط المطلوب منا أن نحترم خياراتهم. ألم يقل الله تعالى لرسوله الكريم "لست عليهم بمصيطر" (الغاشية، 22)، فما بالنا نريد نحن أن نسيطر على غيرنا ونتحكم بهم؟!
لا يحزن الجميع بنفس الطريقة. فإن اختلفت طريقتهم عن طريقتك فهذا لا يعني أنهم متبلدو الإحساس. هناك مثلاً من يمتنع عن الطعام في أوقات الشدة، وهناك من يقبل عليه بشراهة. كيفية تأثرك بالأحداث الأليمة والفواجع أمر مبرمج في حمضك النووي الذي ورثته أباً عن جد. ففي حالات الخطر هناك من يهرب وهناك من يثبت ويواجه وهناك من يتجمد مكانه وهناك من يتظاهر بالموت. وهذا لا يعني أن أحداً أفضل من الآخر. وهنا لابد من الالتفات إلى دور الإيغو في طريقة التعبير عن الحزن، أو في طريقة مد يد العون للمنكوبين.
على أية حال، الرسالة التي أردت إيصالها هنا هي: اعتنِ بنفسك. بل واعتنِ بنفسك أكثر في أوقات الكارثة، لماذا؟ ببساطة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. لا يمكنك أن تقدم للناس الحب والدعم والأمل والدعاء والمساندة، إن لم تكن نفسك مليئة بكل ذلك من الداخل. لكل هذه الأسباب وأكثر، أرجوك.. اعتنِ بنفسك!
التعليقات