يعاني أكثر الساعين إلى التشافي من تعقيدات في علاقتهم مع أنفسهم ومع الآخرين ومع الحياة عموماً. وعند الغوص في دواخل نفوسهم أثناء جلسات التشافي، غالباً ما يتكشف أن السبب يعود إلى طبيعة العلاقة بينهم وبين الأم تحديداً في أطوار الطفولة المبكرة. وعند الغوص أعمق، تجد أن الأم هي نفسها كانت علاقتها بأمها (جدة المتشافي) غير سليمة كذلك، وهكذا.. وإن لم تتوقف هذه السلسلة عند شخص متحدر من هذه المنظومة العائلية، فستستمر المعاناة بتكرار نفسها إلى أن يشاء الله ويستيقظ أحدهم ويقول بإرادته الحرة: لا للمعاناة.
هذه الرسالة مستوحاة من تقنيات الوقوف العائلي لتشافي كارما الأجداد، ومن تقنيات البرمجة اللغوية العصبية التحويلية للخروج من العهود اللاشعورية مع الأم التي تمنع الشخص من إقامة علاقات سوية مع نفسه ومع الآخرين ومع الحياة. استخدموها في تأملاتكم، ستفيدكم جداً في عملية التصالح والتسامح والتجاوز. وطريقة الاستخدام المبسطة بدون مساعدة من شخص مختص مثلي في هذه التقنيات كالتالي:
عد بذاكرتك إلى الوراء حتى تصل إلى أصغر سن ممكن. وإن لم تتمكن، فما عليك إلا أن تجد صورة لك عندما كنت صغيراً، أو حتى استفد من أداة الخيال واصنع في ذهنك صورة لك من زمن الطفولة. غالباً سيتولى عقلك الباطن المسألة ويحضر لك صورة ذكرى موقف معين من تلك الأيام. تخيل أنك في ذلك السن موجود بحضرة والدتك. استحضر مشاعرك تجاهها، ثم حدثها بالآتي:
أمي الحبيبة، لقد عذبتِني دهراً وأنا أسعى وراء حبك ورضائك.. أمي الحبيبة، عندما كنت أحاول أن أتقرب منك كنت تصدينني.. وعندما أحاول أن أعانقك كنت تدفعينني بعيداً عنك.. أنا الآن لم أعد صغيراً، لقد أصبحت رجلاً في الأربعين، وأباً، وحققت لنفسي بعض الأمجاد لكي أسعدك.. لكي أنال موافقتك علي وقبولك لي.. لكنني برغم كل شيء لازلت أشعر- بسببك- أنني صغير القدر، وأني لست أهلاً للإنجازات الكبيرة أو المناصب المهمة، ولا حتى أستحق أن يصغي أحد إلى مافي جعبتي من آراء وعلوم ومعارف برغم شهاداتي الكثيرة. بل أراني بعين عقلي طفلاً في الخامسة يتعلق بأثوابك فتنهرينه لتكملي ما بين يديك من مشاغل.
أمي الحبيبة، الآن أدرك أن واجب الموافقة علي والقبول لي يقع على عاتقي أنا وحدي.. أنا الذي يجب أن أوافق على نفسي وأقبلني. الآن أدرك أنها ليست مسؤوليتك وأن الذنب ليس ذنبك.. عندما أعود بذاكرتي إلى ما كنت تحكينه من ذكريات طفولتك.. وعندما أفكر بالبيئة التي نشأت وكبرت فيها، أدرك أن الذنب ليس ذنبك..
أنت نفسك صدتك أمك عندما حاولتِ التقرب منها، وكانت تدفعك بعيداً عنها عندما حاولت أن تعانقيها..
حتى أمك نفسها كانت تحاول التقرب من أمها فتصدها، وكانت تريد عناقها فتدفعها بعيداً عنها.. لقد كبرنا جميعاً في بيئة بلا حب.. الآن أدرك أن الحب الوالدي في مفهوم ذلك الزمان كان تأمين اللقمة والسقف.. بل كلما كان الوالدان أكثر صرامة وتشدداً، كلما دل ذلك على اهتمام شديد بالأبناء.. من ذا الذي كان يعانق ابنه في ذلك الزمان أو يهتم بسؤاله عن مشاعره؟
أمي الحبيبة، لقد استغرق مني الأمر سنوات من التجارب المريرة، حتى أفهم أن الذنب ليس ذنبك.. حتى أفهم أنك تحبينني بطريقتك الخاصة.. الطريقة الوحيدة التي تعرفينها، وهي طريقة الحب من خلال الألم.. الحب من خلال الجفاء..
نعم يا أمي أنا أحبك جداً وأحترمك جداً.. ومن شدة حبي لك عاهدت نفسي منذ نعومة أظفاري أن أعيد تجاربك نفسها في الحياة وأختار اختياراتك نفسها.. لم أكن أريد لك أن تعاني وحدك في الحياة، لذلك أخذت على عاتقي أن أعاني مثلك.. لقد حاولت أن أشفي جراحك بحبي الطفولي الطاهر، لكني كنت صغيراً جداً.. ضئيلاً جداً..عاجزاً جداً..
ربما لم أكن قد تعلمت الكلام بعد عندما أدركت أنك تعيشين حياتك بدون سعادة.
ولأني أحبك كثيراً وأحترمك كثيراً، فقد وعدتك أني سأعيش مثلك حياة بدون سعادة.. وقد لاحظت أنك أنت أيضاً وعدت أمك ووفيت بهذا الوعد، ولعل جدتي قطعت لأمها الوعد نفسه وأوفت به بإخلاص.
لكني اليوم يا أمي أصبحت أباً.. ولا أريد لأبنائي أن يلاحظوا حياتي الخالية من السعادة فيقرروا من شدة حبهم لي أن يكرروا السيناريو نفسه، ولا أن يعيدوا تمثيل المسرحية نفسها.. هذا العهد يجب أن ينتهي هنا يا أمي.. وهذه السلسلة من المعاناة العابرة للأجيال يجب أن تنقطع هنا يا أمي.. لن يحمل كتفا أبنائي الصغيران كارما أجدادهما، ولا أحفادي.
لذلك سامحيني يا أمي، أنا أحبك كثيراً وأحترمك كثيراً.. أحترم خياراتك في الحياة، لكني أختار أن أحيا حياة مختلفة عن حياتك وأختار خيارات مختلفة عن خياراتك وأن أعيش حياة فيها سعادة.. دون أن ينقص ذلك من حبي واحترامي لك شيئاً.
التعليقات