رصد طبائع الاستهلاك يتطلب أن نتعمق أكثر في فهم كيف تحول السلوك الاستهلاكي من وظيفته الاقتصادية والاجتماعية، إلى عقيدة، وذوق، وأسلوب حياة، كما يستلزم بيان الأدوات السحرية التي جعلت الاستهلاك ثقافة وإدمان، بل ومقياس وهمي لسعادة الإنسان!
فقد تحول الاستهلاك من تلبية لطلب إو اشباع لحاجة إنسانية، إلى غاية في حد ذاته، وذلك بفعل صناعة أخرى رديفة لعملية الإنتاج وهي صناعة الترويج والإعلان التي أصبحت تستحوذ على استثمارات هائلة وتتخذ أشكالا عديدة ومتنوعة للوصل إلى المستهلك او الزبون بكافة الطرق، حيث توقعت تقارير اقتصادية أن يصل حجم سوق الإعلانات العالمي إلى نحو 770 مليار دولار بحلول العام 2024، في ظل حالة المنافسة السوقية السائدة والقوية التي تعيشها غالبية الشركات والمؤسسات بمختلف دول العالم، سعياً منها إلى تعظيم مبيعاتها بالاعتماد على زيادة إنفاقها على الحملات الإعلانية والتسويقية ومن ثم تعزيز فرص الربح لديها. حيث يلعب الإعلان دوراً أساسياً في إيصال رسالة الشركات والمؤسسات إلى الجمهور المستهدف والتأثير في سلوكه الشرائي،باستخدام مختلف وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والإلكترونية لتحقيق هذه الغاية.
فالمنتجون يمتلكون وسائل الإقناع الخفية والظاهرة، ويسخرون أرقى أنواع التكنولوجيا والبحوث العلمية حيث يتم المزج بين نظريات علم النفس وآليات علم التسويق، للوصول إلى أفضل رسالة إعلانية لجذب المستهلك وإيقاعه في فخ المنتج، بل تحويل المستهلك نفسه إلى عبد مسلوب الإرادة تجاه السلعة، أي توجيهه ليكون مستهلك حسب الطلب ، مستعداً لشراء أي شيء وحتى أتفه السلع وهكذا أصبحت رغبة المنتج هي التي تحدد الطلب، وليس رغبة ومصالح المستهلكين!!
وصار للاستهلاك اقتصادُه ومؤسّساته ووسائله الدعائية. وتحوّلتِ المجتمعات إلى قطعانٍ تنساق وراء مَن يأخذها إلى المراعي ويختار لها نوع ما تلتهمه، مع فارقٍ هو أنّ على هذه القطعان البشريّة أن تدفع ثمن ما تقتاته فانتقلت البشريّةُ بذلك من ثقافة الإنتاج إلى ثقافة الاستهلاك.ورويدا رويدا عادت المجتمعات الإنسانية، ربما دون ان تدري بفعل سحر الدعاية وقوة الإعلان، إلى وثنية جديدة وهي عبادة الأشياء، فلم تعد الأشياء المنتجة تشكل شروط عيش ونشاط الإنسان، بل أصبحت هي المقياس الذي يحدد قيمة الإنسان وسمعته الحسنة وتأثيره على غيره أو أمثاله.ولم يعد إشباع الحاجات الإنسانية يتحقق بتوفر المنتج المطلوب وإنما أضيف إليه احتياج كمالي آخر وهو العلامة التجارية، فمثلا لم تعد ساعة اليد وسيلة لمعرفة الوقت فقط وإنما أيضا أداة للوجاهة الاجتماعية وقس على ذلك في عالم الطعام والأزياء والأجهزة الذكية والسيارات وغالبية السلع الأخرى.
في الوقت نفسه نجد أن الرأسمالية المعاصرة ، تحاول عبر ثورتها التكنولوجية تحويل الإنسان إلى آلة أو إحلال الآلة بدلاً عن الإنسان، والعمل على تغريبه واستلابه وتشييئه، بينما تغفل تطور الفرد الروحي وتشبعه الابداعي وادراكه لحياته وعلاقاته الخاصة ذات المعنى الإنساني العام.
ومن ثم فإن الهدف الأساسي من وراء كل تلك الجهود، التي تتضافر فيها بحوث علمية عديدة وآليات تسويقية متنوعة، هو تحويل الاستهلاك إلى إدمان، بحيث لا يتحقق الاشباع والارتياح لدى المستهلك المدمن إلا بالزيادة التدريجية في كمية جرعة الاستهلاك . وهذا يتطلب العمل بكافة السبل على تسليع كل القيم وإذا استحال ذلك فيتم ، إخضاعها للتفكيك، ؟ لأنه طالما كان هناك حياة داخلية غنية:(معتقدات دينية ، أخلاقيات، تقاليد)، فلن يسهل دفع الإنسان للدخول في حمى الاستهلاك، وكلما تقلصت هذه القيم ، كلما أدت حُمى الاستهلاك تعويضاً عن الخواء والروحي والفكري.
في إطار التنافس المحموم على الأسواق، وجدنا التقارب بين بعض التيارات اليمينية الرأسمالية وبعض تيارات اليسارية التقدمية الفوضوية ، او بعبارة أخرى حدث التلاقي الكبير ، بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية الثقافية بعد افتراق دام طويلاً، فالأحزاب اليمينية في المجتمعات الديمقراطية الحديثة تدافع عن الاقتصاد الليبرالي الحر ، بينما تترك لليسار التكفل بالتغييرات الليبرالية الثقافية مثل: تشريع الإجهاض، وزواج المثليين، ومسابح العراة،ولكل ذلك سوقه والسله المناسبة له المهم ان تتاح فرص أكثر للتسوق بحيث يصبح العالم مول أو مركز تجاري كبير، وكله في حب الاستهلاك يهون!
(وللحديث بقية)
التعليقات