من دواعي الألم وقسوة الحياة أن لايعي الإنسان الفرق بين الموت أو الرحيل فكلاهما يحمل نفس المضمون وقد يحملان نفس المعنى العام عند الكثير من أصحاب القلوب المرهفة مع إختلاف طريقة العرض، فالموت وإن كان قاسيا فهو النهاية الحتمية لحياة الإنسان وهو الفناء بعد الوجود ولو بعد حين أما الرحيل فهو طريق طويل في نفق مظلم لامصير له رغم أن بداياته قد تكون مرسومة بحرفية شديدة لندرك أنه والموت واحد لايختلفان.
في صفحات لم تتجاوز المائتي وعشرون صفحة يسرد الكاتب – محمد إسماعيل معاناة أسرة جزائرية صغيرة فى بلد المليون شهيد مكونة من أب سكير قرر إمتهان مهنة الخياطة والتطريز امتهانا حقيقيا وفعليا فى نهاية أحداث الرواية رغم أنه لم يمتهن غيرها طيلة حياته ولكن كان قرار الماضي بوقف تنفيذها لعلل مزاجية وأم متمردة بلا كينونة حقيقية لمعنى الامومة وقد قررت الرحيل خارج البلاد - منذ بداية الطريق بلا مقدمات أو سابق انذار - بطفلتها الصغيرة الى مجهول يبدو منيرا يشع ضوءا خافتا لايتناسب و طموحاتها الجامحة في أحد العواصم الاوربية فتقرر العصيان والتمرد وتحترف كافة وسائل الإبتذال بصورة مقننة لتراها مهنة مشرفة ومقبولة لدى ضميرها الشائك تاركة فلذتي كبد بنتين اخرتين في مراحل عمرية مختلفة في فترة المراهقة بلاسند مع هذا الأب الغائب عن الوعي بلا هوادة.
تبدأ فكرة الرحيل إما بمؤشرات بديهية يدركها القاصي والداني ولكن يجهلها كل من غاب عن الوعي بمحض إرادته منهمكا في ملذات الحياة الزائلة وإما أن تكون تلك الإشارات مصحوبة بقرار صريح من صميم عقل الإنسان بإستعداده لقبول فكرة التخلي على وجه العموم ، فمجريات الحياة وصخبها التي لا تعبأ باحد كفيلة بأن تعيد شريط الماضي في ذكريات متصلة ومتقطعة لتكون الصورة أوضح ولكن بعد فوات الأوان، فمن الممكن أن يكون قرار الرحيل لشخص ما بداية جديدة مختلفة لشخص آخر قرر فيها التنازل عن هذه الحياة بكامل وعيه وارادته من كل إلتزاماته وواجباته كأب مسؤل وكرب أسرة صغيرة لفترة ليست وجيزة ، ولكنه يقرر البداية من جديد لممارسة واجباته ومهامه الإنسانية بعد مرور فترة تعافي غشاها النسيان.
قد يتسائل البعض وهل من ضرورة لذلك الرحيل المفاجئ حتى يتبدل الحال وحتى تجري الأمور في نطاق خارج التصور المنطقي لتسلسل الأحداث لتكون الإجابة أن رحيل الجسد قد يحمل الكثير من العطايا والهبات طالما أنه بلا روح له في المكان والزمان المناسب.
المعاناة لم تتوقف إلى حد معين ولم يكن لها بصيص من الأمل أو النور وذلك في معظم أحداث ومشاهد الرواية ومع كل من عاصر أو عاش هذه الأحداث من قريب أو بعيد وكأنه قدر لهذا الشعب ولهذه البلاد أن يتصالح طوعا مع فكرة الحرب ضد الغزو والاستعمار الى مالانهاية وبلا غاية.
تغوص أحداث الرواية أيضا في أطراف غرباء أرتضوا البقاء في أرض الجزائر حتى ولوكانوا من غير أهلها وكأنهم لم يستشعروا الفرق بين أوطانهم التي تأن وتلك التي رحلوا إليها فلا فرق بين وطن عربي وآخر طالما أن المعاناة تتكرر بأشكال متباينة.
الرواية واقعية وصادمة الى حد كبير فهي تنسج شريطا قاسيا بتفاصيله المؤلمة دون أن نستشعر بعمق الجرح الدامي وقد وفق الكاتب تماما في عدم الإستطالة أو المط الذي لن يؤتي بثمار أفضل مما هو عليه بصورته التي بين أيدينا.
كنت أتمنى حدوث مشاهد إتصال ولو من بعيد بدوافع الإطمئنان الهشة بين باهية الأم القاسية التي قررت السماح بالرحيل وبين فلذات اكبادها لمياء وفاطيما خاصة وأن أحداث الرواية كانت توحي ببعض العبارات التي أوحت لنا سعة صدر الأم لإستقبال فلذات أكبادها حال الأوان.
باب الزوار خطوة الى الامام محسوبة بدقة متناهية لميلاد كاتب محترف.
التعليقات