• لهذه الأسباب وجد لنفسه مكاناً في «مهرجان سان فرانسيسكو للفيلم اليهودي» واحتفى به «معهد الفيلم اليهودي» !
• نسخة مشوهة من الفيلم الوثائقي «طوفان في بلاد البعث» للراحل عمر أميرالاي ولم يُقدم جديداً سوى أنه حول «الوثائقي» إلى «روائي».. وأجبرك على الاستماع إلى اللغة العبرية!
يبدو أن ثمة من يسعى جاهداً، لكي يفرض علينا التعايش مع العدو، والانصياع للواقع الجديد، وتحولاته، وهو ما يتأكد، بجلاء؛ عبر طوفان من الأفلام «العربية»، التي اجتاحت حياتنا في الفترة الأخيرة، وتستهدف – في المقام الأول – إجهاض أي شكل من أشكال المقاومة، وتمرير رسائل مُغرضة تحث الجمهور العربي على قبول الآخر، والتحلي بروح التسامح، والدعوة إلى أغلاق صفحة الماضي، ونبذ الكراهية، وهو ما لمسناه، بوضوح، في «باقة» من الأفلام مشبوهة التوجه، والتمويل، التي سعت إلى تكريس شكل جديد للصراع، إن لم يمح، في الأساس، كلمة «صراع»، ويتبنى خطة مُحكمة تستهدف الأجيال الجديدة، التي ينبغي عليها أن تتندر من كلمة «صهيوني»، وتتهم من يتحدث عن «الإمبريالية» بأنه مخبول!
فيلم «جيران» (سويسرا / 124 دقيقة)، تأليف وإخراج مانو خليل، الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو في مسابقة البحر الأحمر للأفلام الروائية الطويلة، واحداً من تلك الأفلام التي تتبنى هذه الاستراتيجية المشبوهة، وربما لهذا السبب احتفى به «معهد الفيلم اليهودي» Jewish Film Institute، عقب عرضه في مهرجان «سان فرانسيسكو للفيلم اليهودي» San Francisco Jewish Film Festival، ووصفه بأنه «إضافة متأخرة ورائعة إلى تشكيلة المهرجان»، الذي «يحتفي بالأفلام التي تعكس التجارب والقيم اليهودية في جميع أنحاء العالم»، ومنها الأفلام التي عُرضت في دورة 2021؛ مثل : «ميشا والذئاب»، الذي اختير ليكون فيلم الافتتاح، وهو فيلم وثائقي عن «المحرقة». وفيلم آخر يسعى اليهود من خلاله للثأر من الألمان، وتدميرهم. وانضم إليهما فيلم «جيران»، للمخرج الكُردي مانو خليل، الذي ولد عام1964 في مدينة القامشلي في سوريا، ودرس التاريخ والحقوق في جامعة دمشق ثم هاجر إلى تشيكوسلوفاكيا عام 1986، ودرس الإخراج، وبعد تخرجه حصل على رسالة الماجستير في الإخراج السينمائي والتلفزيوني. وفي الندوة، التي أعقبت عرض الفيلم في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، أكد أنه قُبض عليه، واعتقل في سوريا، أثناء قيامه بالتصوير هناك، وبعدها لم يعد إلى سوريا أبداً!
ثأر .. أم تصفية الحسابات ؟
ربما لهذا السبب بدا فيلم «جيران»، وكأنه محاولة لتصفية الحسابات مع النظام السوري، والثار من «الديكتاتور» حافظ الأسد، والسخرية من حزب البعث، والفساد الذي استشرى في سوريا، مُذ تأسيس حزب البعث، بينما صارت الرشاوى وسيلة المواطن الوحيدة لتأمين متطلباته، ودائماً هناك، في خلفية «الكادر»، صورة «المُستبد» حافظ الأسد، الذي قهر السوريين، وقمع الأكراد، ونكل باليهود !
لن تجد تطبيقاً عملياً، وواقعياً، لمقولة «دس السم في العسل» أفضل، وأقرب، مما فعله مانو خليل، في فيلمه «جيران»، فهو يتأسى على حال سوريا، التي فقدت روح التسامح، التي كانت تجمع بين الملل، والطوائف، والثقافات، وتجعل من اليهود والأكراد والمسلمين «جيران»، وبمسحة من السخرية الغليظة يُقدم لنا القرية الواقعة على الحدود بين سوريا وتركيا (قال المخرج إنه تمنى لو صور الفيلم في مدينته قامشلي)، التي يجتمع أهلها من اليهود والأكراد والمسلمين على الحب والود والصداقة، حتى أن «أرام» (إسماعيل زاجروس)، ابن العائلة الكردية، وقع في غرام «حنا» (أوجورال ديريا) اليهودية، بينما شقيقه الأكبر «جاسم» (مازن الناطور) يواظب على موعده الأسبوعي، كل سبت، لبقضي للعائلة اليهودية احتياجاتها، احتراماً منه للطقوس اليهودية التي تُحرم العمل «يوم السبت» !
غير أن هذه المحبة، والروح المتسامحة، وأجواء الود المتبادل، تنقلب رأساً على عقب، عقب وصول المُدرس «وحيد» (جلال الطويل)، عضو حزب البعث العربي الإشتراكي، الذي يزرع الكراهية في نفوس أطفال «مدرسة الثورة الإبتدائية»، تجاه الكيان، الذي سرق فلسطين، ويرى في الأطفال «طلائع البعث»، لأن «القائد» يؤمن أن الشباب يصنع المستقبل، ويُطالبهم بأن يحملوا «شُعلة الثورة»، وأن ينادوه «يا رفيق»، وبلهجة متعالية يقول :«جيت أخلصكم من الجهل» !
هنا قد يرى البعض أنه لا ضرر، مُطلقاً، في أن يزرع المدرس الكراهية في نفوس الأطفال، تجاه الكيان، الذي سرق فلسطين، وأنا معهم في هذا، لكن ما حدث أن المخرج «المُغرض» يواصل «دس السم في العسل»، بكل الطرق؛ فتارة يُطالبهم بإمساك سكين ليجزوا رأس «الدُمية اليهودية»، في مسرحية تُسقط على اغتصاب فلسطين، وكانت النتيجة أن الأطفال صاروا سفاحين، ومتعطشين للدماء (ذبحوا قطة أثناء لعبهم)، وتارة أخرى يبث في نفوسهم الرعب من مصير مفزع ينتظرهم على يد اليهود، الذين يختطفون الأطفال، ويذبحونهم لاستخدام دمائهم في عجن «الفطيرة اليهودية»، وفي الفصل الدراسي يُصبح سؤاله الدائم : «ماذا نفعل باليهود ؟»، ويُثني على أكثر الاقتراحات الطفولية شيطانية ودموية، قبل أن يُلقنهم رؤيته الساذجة لمصطلحات «الصهيونية» و«الإمبريالية»، وأهمية الزهو بعصر النور «عصر حافظ» - حافظ الأسد – الذي سيقضي على «الصهيونية» و«الإمبريالية»، بينما يعيث رجال استخباراته فساداً في الوطن، ويعتقلون وينكلون ب «آرام»، عم الطفل «شيرو» (سرهد خليل)، الذي يبدو وكأنه المخرج نفسه، في طفولته، وأن الفيلم يحكي جزءاً من سيرته الذاتية؛ بدليل أن الفيلم يُقدم مشهداً للمدرس، وهو يُعاقب الطفل «شيرو»، لأنه يتحدث الكردية، ويقول المخرج، في أحد حواراته : «عندما كنت طفلا عمري ست سنوات، نطقت بكلمة كردية وضربني المعلم على يدي إلى أن تورمت».. وهذا ما حدث في الفيلم بالضبط !
إسقاط سوريا المقاومة !
في سوريا «الأسد» و«البعث»، كما نرى في الفيلم، جُرد الأكراد من جنسيتهم، وأجبروا على حمل الجنسية السورية، والتجنيد في جيشها، في حين تُركوا فريسة في يد الأتراك، الذين أوحوا للجميع بأنهم «أعظم قومية»، بينما مُنع اليهود من مغادرة البلاد، وكأنهم أسرى، ما دعا الأم اليهودية «روزا» (تونا دويك)، إلى التحايل على القوانين الظالمة، وتزوير وثائق السفر؛ بحيث تنتحل ابنتهم «حنا» صفة «روشان» (جيهان أرمانك)، أم الطفل التي ماتت ضحية الجنود الأتراك، وتُغادر البلاد بجواز سفر المرأة الكردية !
فيلم يدعوك للتعاطف مع اليهود والأكراد، ويُحرضك، تماماً، ضد نظام آل الأسد، وحزب البعث، وكأن بين المخرج الكردي، وبينهما (الأسد والبعث) ثأر دفين . وطوال مشاهدة فيلم «جيران» (2021) لا تستطيع أن تُنحي عن تفكيرك الفيلم الوثائقي «طوفان في بلاد البعث» (2003)، الذي أخرجه السوري الراحل عمر أميرالاي، من إنتاج قناة آرتيه الفرنسية، وكأنه النسخة المشوهة منه؛ فالفيلم الوثائقي ينطلق، أيضاً، من رصد الآثار الكارثية المترتبة على السياسات الإقتصادية والاجتماعية لحزب البعث، وحكم آل الأسد، في سوريا، واختار مدرسة في قرية الماشي التابعة إدارياً لمحافظة الرقة، عقب بناء سد الفرات، مسرحاً لحواراته، ومقابلاته، مع طلاب ومعلمين ومسئولين، وتندر كثيراً بالشعارات التي تمدح الرئيس حافظ الأسد، وتُمجد حزب البعث، وهو مايعني أن المخرج مانو خليل لم يُقدم جديداً، سوى أنه حول «الوثائقي» إلى «روائي»، وأجبرك على الاستماع إلى اللغة العبرية، لعلها تستهويك فتحبها، وربما شد أنظارك عبر مشهد البالونات الملونة وهي تُحلق، وتملأ الفضاء جمالاً، في حلم الطفل بأمه الراحلة، ولمس وجعاً في داخلك بقصة حب «حنا» و«آرام» المُجهضة، وأراح قلبك بانتقام «سودة» (إيفان أندرسون)، الزوجة المغلوبة على أمرها، من «علي» (بانجن علي)، الذكوري الخاوي والهش، وأسعدك بمشهد وصول الكهرباء للقرية، وأغواك بالمشاعر الإنسانية لليهودي «ناحوم» (جهاد عبده)، الذي أهدى «سليم» جهاز التليفزيون، الذي طالما تمناه ابنه «شيرو»، وأثار شجنك بلقاء «حنا»،وهي في السبعين (بريجيت فري) و«شيرو»، وهو في السابعة والأربعين من عمره (شيرزاد عبد الله)، بعد غياب طويل، في مخيم اللاجئين، لكن شيء لا ينبغي أن يحول بينك والتفكير في الأهداف الخبيثة لفيلم «جيران»، وتركيزه على القهر، والظلم، والكبت، والفساد، ودوجما التعليم، الذي يُلقن، ويغسل الدماغ، لا لشيء سوى دفعك إلى كراهية النظام السوري، الثابت على موقفه المُقاوم للاحتلال، والرافض للتطبيع مع الكيان المُغتصب، ومن ثم فإسقاطه، والحض على كراهيته، يبدو هدفاً للفيلم، ومخرجه، وجهات التمويل التي تقف وراءه؛ ومن ثم بدا وكأن الفيلم هو الذي يحض على الكراهية، ويناهض أن تستقل دولة بقراراتها، ولا تنضم إلى القطيع، أو تدخل حظيرة المهادنة، والاستسلام، المفروضة على الجميع، وهو بهذا يؤكد، جلياً، أنه يتبنى «الخطاب الصهيوني»، وربما لهذا السبب وجد لنفسه مكاناً في «مهرجان سان فرانسيسكو للفيلم اليهودي» واحتفى به «معهد الفيلم اليهودي» !
التعليقات