(1)
جماعةٌ من البشر يحتمون بمظلة محطة خوفاً من رذاذ المطر والهواء البارد. يشتد المطر فيكاد الطريق يخلو إلا منهم. فجأة يظهر رجل يركض كالمجنون ثم يختفي في شارع جانبي. يركض في أثره مجموعة تتصايح "أمسكوا اللص"، ينجحون في الإيقاع به ويعيدونه للطريق ثم يوسعونه ضرباً أمام أعين الواقفين تحت المظلة. يلاحظ المحتمون من المطر أن هناك شرطي يقف على مقربة دون أن يتدخل، بل يدير وجهه للناحية الأخرى. لا يجدون تفسيرا لما يحدث أمامهم سوى أنه مشهد سينمائي يتم تصويره، رغم أنهم لم يروا طاقم تصوير أو كاميرات.
يزداد إنهمار المطر ثم تظهر سيارتان تنطلق أحدهما في أثر الأخرى بسرعة جنونية. تنقلب السيارتان ويقع إنفجارهائل. يزداد تعجب الواقفين تحت المظلة من عدم تدخل الشرطي الذي يراقب المشهد وكأن الأمر لا يعنيه. شعروا بهول الكارثة، لكن أحداً لم يبرح مكانه خشية المطر.
تحول المطر إلى سيل. رأى الواقفون تحت المظلة اللص، الذي كان يتعرض للضرب، وقد أخذ يتجرد من ثيابه ملقياً إياها فوق حطام السيارتين ثم بدأ في الرقص عاريا، وسط تصفيق من كانوا يضربونه منذ برهة. عادت فكرة أن ما يحدث ليس سوى مشهد تمثيلي لتسيطر على أذهان الواقفين تحت المظلة. إستراحت نفوسهم لهذا التفسير خاصةً مع وجود الشرطي الذي لم يبدِ إهتماماً، بل أن البعض أبدى إعجابه بالبراعة الفنية التي يُنفَذ بها المشهد.
بعد قليل ظهر في نافذة رجل أنيق وأشار لامرأة أنيقة في نافذة مقابلة لتلاقيه في الطريق. بعد قليل ظهرا سوياً في عرض الطريق ثم تجردا من ثيابهما ومارسا الحب فوق حطام السيارتين. نظر الواقفون نحو الشرطي متعجبين فوجدوه يشعل سيجارة.
قطع دهشةَ الواقفين تحت المظلة مقدمُ قافلة جمال يقودها رجال ونساء من البدو. نصبوا خيامهم في الطريق وربطوا الجمال لأسوار البيوت مقيمين معسكراً قريباً من حلبة اللص الذي كان لازال منهمكاً في رقصه. تبعت القافلة البدوية قافلة من سيارات سياحية مليئة بأجانب. غادر الأجانب السيارات وأخذوا يتطلعون لكل ما حولهم في "نهم" دون مبالاةٍ باللص الراقص أو المتضاجعَين أو حتى المطر المنهمر بغزارة.
ثم يصل عمال بناء كثيرون تتبعم لوريات ضخمة محملة بمواد البناء ليشيدوا سريعاً قبراً رائعاً وسريراً حجرياً كبيراً. رص العمال جثث ضحايا حادث السيارتين على السرير وأحاطوها بالورود، ثم حملا الرجل والمرأة المتضاجعين فأودعوهما القبر حيّين وسدوه بالتراب وغادروا.
ليس هذا مشهداً تمثيلياً بل هو كابوس مخيف!!
هكذا ظن المحتمون من المطر وقد تعالت بينهم أصوات تنصح بمغادرة المكان فوراً، لكن بعضهم أصر على ضرورة إنتظار النهاية السعيدة. لازالوا يؤمنون أن ما يحدث أمام عيونهم ليس سوى تمثيلية.
فجأة أتى رجل يرتدي روب القضاء ليتربع فوق القبر باسطاً بين يديه صحيفة يتلو منها وكأنه ينطق بحكم. لم يميز كلامه أحد بسبب الضوضاء التي نشبت نتيجة لمعارك بين البدو وبعضهم، وبين الخواجات وبعضهم، ثم بين البدو والخواجات. علا التصفيق والصخب وأخذ عرايا كثيرون يرقصون ويمارسون الحب حول القبر.
لاحظ الواقفون تحت المظلة رجل يراقب المشهد يمنظار مكبر وقد بدا عليه الرضا. سمعوه وهو يغمغم "إستمروا بلا خطأ وإلا اضطررنا لإعادة كل شيء من البدء".. تيقنوا أنه المخرج وساد بينهم نوع من الطمأنينة. حاولوا سؤاله عما يحدث لكنه أشاح عنهم بوجهه وحاول الإختفاء مع مقدم رجال بدوا وكأنهم يبحثون عنه.
زاد تعجب الواقفين الذين ترددوا في الذهاب. لابد أنهم سيستدعون للشهادة عن الجرائم التي ارتكبت أمامهم. إستغاثوا بالشرطي الذي جاءهم متململاً، لكن دون أن يغادر أي منهم موقعه تحت المظلة. سألهم الشرطي عن سبب وقوفهم بينما غادر الجميع. لفتوا انتباهه للجثث فلم يكترث بل سألهم عن بطاقاتهم. سألهم الشرطي ساخراً عن سبب إجتماعهم وهو يتحقق من شخصياتهم.
ــ لا يعرف أحدنا الآخر.
ــ كذبة لم تعد تُجدي
قال الشرطي ذلك قبل أن يسحب بندقيته ويطلق الرصاص عليهم جميعاً ليسقطوا جثثاً تحت مظلتهم.
(2)
في قسوة بالغة تدين قصة "تحت المظلة"، التي "تبدو" عبثية، الخوفَ عندما يتمكن من العقل الجمعي فيشل حركته. هذا العقل الذي يلوذ دوماً بما يعرف (المظلة) هرباً من مواجهة بوادر الخطر (المطر)، فيترك الخطر يتفاقم أمام عينيه حتى يقضي عليه هو ذاته في النهاية. يشاهد العقل الجمعي في سلبية مفجعة كيف يتحول اللص إلى بطل يصفق ذات الناس الذين كانوا يطاردونه ويتهمونه باللصوصية منذ برهة. يحاول العقل الجمعي أن يقنع نفسه أن ما يقع أمامه من صراع عنيف على المصالح (سباق السيارتين) ليس سوى اتفاق (تمثيلية) هناك من سيتدخل في الوقت الملائم لحسمه بلا خسائر.
لكن أكثر ما يثير حفيظة العقل الجمعي هو ممارسة العاشقين للحب أمامهم، هذا فقط ما يصفونه بالفضيحة. مع ذلك يكتفون بالإدانة كما يكتفون بإبداء الدهشة أمام صراع الهوية والمصالح الدائر أمام أعينهم. ويصمت العقل الجمعي عن دفن العاشقين حيين في القبر المشيَد، فأفضل وسيلة لمجابهة "الفضيحة" دفنها كأنها لم تكن.
لا أحد يلتفت للقانون وضرورة تطبيقه إحقاقاً للحق وإنجازاً للعدالة، فالرجل الذي يتحدث مرتديا روب القضاء لا يهتم بسماعه أحد. حتى ذلك الرجل الغامض في إشارة للفساد الواضح المتكسب من الوضع، والذي يراقب المشهد سعيداً بما يحدث يخشى العقل الجمعي من مواجهته والقبض عليه. يكتفي المتفرجون باعتباره مجنوناً أو مخططاً بارعاً.
أما الشرطي الذي بدا سلبيا ليس رمزا للدولة فلعله رمزٌ للتاريخ وقسوته. فالتاريخ لا يتدخل أبدا بل يكتفي دائما بالمراقبة قبل أن ينفذ حكمه. عندما استغاث الخائفون به سألهم عن سبب تواجدهم معاً فأجابوا أن لا علاقة تربطهم ببعضهم البعض. لا يوجد فكر متفق عليه لمواجهة استجواب التاريخ. وهنا يأتي حكمه بالموت في إشارة لضرورة القضاء على السلبية الجماعية المكتفية بالفرجة.
صدرت مجموعة "تحت المظلة" للأستاذ نجيب محفوظ عام 1969، لكن هناك تنويه في المقدمة أن قصصها قد كتبت بين شهري أكتوبر وديسمبر من عام 1967.
التعليقات