إذا تمكنت مجموعة من الصبية من الحصول على كرة ومساحة من الأرض، فسوف يتمكنون من صنع ذكريات سعيدة، وقد تكون الكرة مطابقة لمعايير الفيفا أو مصنوعة من الجلد الرخيص، وقد تكون الأرض ملعباً تضيئه الكشافات في كومباوند أو خرابة تحيط بها أكوام القمامة، لا يهم.
في كل الأحوال سيلعب الصبية بنفس الطريقة، وسيطلقون نفس الصرخات عند اهدار الفرص أو تسجيل الأهداف، وسوف يتلاعنون فيما بينهم بنفس الألفاظ، وسوف يتشاجرون وربما دبت بينهم الخصومة، لكنهم سيعودون في اليوم التالي لنفس المكان، ليصنعوا المزيد من الذكريات الجميلة.
كرة القدم هي اللعبة التي يستطيع أن يمارسها الجميع. تُلعب في الاستادات الأوليمبية، وفي النوادي التي يرتادها الأثرياء وفي نوادي المتوسطين، وتُلعب في المراكز الشبابية وفي الساحات الشعبية، ولكنها تُلعب أيضا في الشوارع الأسفلتية، وعلى الأرض المتربة أو التربة الطينية. كرة القدم تُلعب في "الطرقة" وفي حديقة الفيلا وفي مدخل "البلوك". لا تُمانع كرة القدم أن تُلعب على "سطوح" متخم بالكراكيب المؤذية، ولا ترفض أن تُلعب على "رووف" مغطى بالنجيلة الصناعية.
كل الألعاب الأخرى تحتاج ممارستها لملاعب وأدوات ومدربين، فلكي يتعلم طفل صغير لعب التنس سيكون على والده أن يدفع لرجل آخر نقودا، فقط لكي يعلم طفله الطريقة الصحيحة للإمساك بالمضرب.
وسوف يكون على هذا الأب أن يسدد إيجار الملعب، وتحمل تكلفة الذهاب إلى التدريب بالمواصلات أو بالسيارة الخاصة، كما سيضطر هذا الأب، (أو في أغلب الأحوال زوجته) للتنازل عن عدد من الساعات لحضور التدريب في النادي أو المجمع الرياضي أو مركز الشباب.
وما ينطبق على التنس ينطبق على الاسكواش والسباحة والفروسية والألعاب القتالية. بل ينطبق أيضا على كرة اليد والكرة الطائرة وكرة السلة وكرة الماء، فكل هذه الألعاب لا يمكن أن تُمارس في الشوارع.
فلا توجد في الشوارع حمامات سباحة ولا ملاعب زجاجية ولا أرضيات مخصصة للسقوط المتكرر كالتي تطلبها ألعاب ككرة اليد أو الكاراتيه، لا يوجد في الشوارع غير الناس وكرة القدم، هذا لا يجعلها اللعبة الشعبية الأولى فحسب، بل يجعلها اللعبة الديمقراطية الوحيدة.
لم ترتبط الشعوب بكرة القدم ونواديها ولاعبيها عبر الأجيال لمجرد أنها لعبة تنافسية مليئة بالتقلبات الدرامية المثيرة، فكرة اليد مثلا قد يكون بها من الإثارة ما يفوق كرة القدم، لكن في عصر الراديو لم يكن من الممكن أبدا أن يفهم الناس أن يفقد الفريق الكرة لأن لاعبا لمس الخط بقدمه، أو لأن آخر احتفظ بها أكثر من اللازم.
فأغلب الناس في ذلك العصر لم يتسنى لهم رؤية ملعبا لكرة اليد، فكان من الصعب عليهم تخيل الخطوط والأقواس ولم يجب أن يطير اللاعب في الهواء ليحرز الهدف دون أن تمس قدماه الأرض!
ورغم أن نفس الناس في نفس العصر لم يتسنى لأغلبهم الذهاب لاستاد التتش أو ملعب الزمالك أو الترسانة، إلا أنهم كانوا يفهمون تماما ما يعنيه مذيع الراديو بقوله: "وعرضية برازيلية من الوينج رايت يقابلها السنتر فرود فيرست تايم جامدة لكن تروح فوق العارضة".
كانوا يرون المشهد بآذانهم وعقولهم، ليس لامتلاكهم قدرة عظيمة على التخيل، ولكن لأنهم رأوا نفس المشهد آلاف المرات في شوارع المدن والقرى.
ولذلك لم يكن من المستغرب أن يعلق أحد "لمستمعين" بأنه كان على اللاعب أن يسددها ببطن القدم أفضل، وكان "مستمع" آخر يجيبه بأن القرار الأصوب كان توقيف الكرة ثم ايداعها بهدوء زاحفة على الأرض، ولم يكن بقية الحضور يجدون في أي من الرأيين أي وجه للغرابة.
وعندما جاء عصر التليفزيون أصبح بإمكان كل الناس أن يرون الملاعب واللاعبين، وأن يتعلموا الحركات والتحركات والخطط والمهارات، وأصبح النجوم مدربين مجانيين في ملاعب الشوارع المفتوحة للجميع.
في برنامج وثائقي عن الكرة في الأرجنتين سألوا مشجع كبير السن عن أيهما أفضل، "مارادونا" أم "ميسي"، فما كان من الرجل إلا أن امتعض وسأل باشمئزاز: "ميسي؟ من ميسي؟"، ثم أضاف: "كان مارادونا يأتي من أوروبا في العطلات ويلعب في شوارع بيونس آيرس مع الفقراء، أما ذلك الآخر فمن الأفضل له أن يلعب مع منتخب أسبانيا، نحن لا نعرفه ولا نهتم لأمره".
وفي أوائل التسعينيات اسعدني الحظ بأن ألتقي برجل مسن من نابولي بأحد مطاعم القاهرة، وتطرق الحديث لكرة القدم وتجربة مارادونا صعبة التكرار التي منحت المدينة العريقة بطولة ايطاليا لأول مرة في تاريخها، وعندما علقت ببساطة أن الكرة في مصر أيضا هي اللعبة الشعبية الأولى، أجاب الرجل بلهجة جدية تماما: "نابولي مدينة فقيرة، الكرة عندنا ليست لعبة، هي الدين"، وأخبرني الرجل كيف ذهب الآلاف من سكان نابولي إلى مقابر المدينة، لعل آبائهم وأجدادهم الراقدين تحت الأرض يسشعرون المعجزة التي صنعها "القديس مارادونا".
ربما كان الإيطالي المسن مبالغا في تشبيهه للكرة بالدين، وربما كان على حق، لكن المؤكد أن ممارسة الكرة ومتابعتها بإمكانها أن تمنح الملايين لحظات من السعادة الصافية والرضا، شبيهة بما يمنحه للناس الإيمان العميق السمح، فيجعلهم أكثر تحملا لمصاعب الحياة وتقلباتها، كذلك فإنه من المؤكد أن الكرة لو تُركت فريسة للتعصب والمعايرة فإنها يمكنها أن تكون وقودا للكراهية المجتمعية تماما كالتعصب الديني.
الخطاب الكروي بحاجة ماسة للتجديد قبل أن تحل الكارثة، الكرة لا تعيش فقط في النوادي والاتحادات والقنوات الاعلامية ومواقع الصحف والسوشيال ميديا، الكرة تعيش قبل ذلك كله في الشوارع، ومن المستحيل السيطرة على الشوارع لو قررت أن تطلق لكراهيتها العنان.
التعليقات