لم يمتلك "آندي دوفرين" بطل فيلم "خلاص شاوشانك" ثروة طائلة كالتي مكنت رجلا مثل "الباتمان بروس واين" من ممارسة هوايته في إبداء الشجاعة ومحاربة أشرار "جوثام".
كذلك لم يسعفه الحظ بأن يقع فريسة لاختلال الخلايا، تلك اللعنة الموفقة التي صاحبت "بروس بانر" ومكنته في اللحظات الحاسمة من التحول إلى "هالك أخضر" قادر على الفتك بأعدائه بقبضتين من صخر.
ربما لو كان إسمه "بروس"، أو كان من ذوي الثروة والقوة لاستطاع "آندي" أن يفر من السجن سريعا، أو ربما لما وقع في البداية تحت طائلة القانون.
لكنه لم يكن سوى رجل عادي من الذين لا يثيرون الانتباه أو الاعجاب، مجرد رجل أوقعه الحظ والنوايا الطيبة، ككل أبطال الملاحم العظيمة، في مصير مشؤوم.
لكن القصص الكبرى كالحياة، مهما بدت ظالمة لا تخلو من بعض العدالة. فالعالم الذي لا يستطيع أن يمنحك كل شيء، لا يمكنه أيضا أن يسلبك كل شيء. لقد بدا أن الحياة قد سلبت "آندي" كل شيء عندما حرمته من الحرية ووضعته ظلما وراء أسوار شاوشانك اللعينة، لكن لا الأسوار ولا الآلاف من الحراس يمكنهم أن يسلبوا رجلا مثل "آندي دوفريه" مقدرته الخارقة، تلك التي لا يمتاز بها إلا عدد قليل من البشر، الإيمان المخلص بالحضارة.
من اللحظة الأولى التي يصل فيها "آندي" لسجن شاوشانك يلفت نظرنا "ريد"، صديقه وراوي الملحمة، أن "آندي" قد بدا معزول تماما عن العالم وكأنه يرتدي معطفا غير مرئي يفصله عن كل ما حوله.
لم يكن هذا المعطف الذي لم يخلعه آندي لحظة سوى التحضر. والتحضر لا يعني هنا الحصول على قدر من التعليم، أو الانتماء لطبقة اجتماعية تختلف عن الطبقة التي ينتمي لها معظم السجناء.
ففي ليلة الوصول لشاوشانك، تلك التي لم يُسمع فيها حس لآندي، إنهار رجل آخر ينتمي لنفس الطبقة التي جاء منها "آندي"، علينا أن ننتبه للتفاصيل الصغيرة، وفي كل تفاصيل "آندي" تتجلى الحضارة.
يتم الاعتداء على شرفه مرارا وتكرارا، لكنه في كل مرة يقاتل، فالحضارة حية مهما خسرت من جولات أمام الهمجية، لكنها لا تنهار إلا عندما ترضى بالهمجية كأمر واقع وتتوقف عن مقاومتها. ساعتها فقط تفقد الشرف.
لا يتخلى "آندي" لحظة عن المكتبة. يرسل آلاف الخطابات لسنوات متتالية حتى يُستجاب لطلبه في النهاية. فالحضارة تدرك أن المعرفة لا تتراكم سوى بالإلحاح من قبل قلة مستنيرة حتى تأتي اللحظة التي تصبح متاحة فيها للجميع.
وفي المكتبة قرأ كثير من نزلاء "شاوشانك" الكتب واستمعوا للأسطوانات ونال بعضهم درجات علمية. لم يصبحوا علماء أو فلاسفة، لكن أصبحوا رجالا يحاولون فهم العالم، والحضارة في جوهرها ليست سوى تلك المحاولة الأبدية.
لا يصطدم "آندي" بالسلطة القمعية، بل يتعاون معها ويضع مهاراته وخبراته في خدمتها. فالحضارة تدرك أن الثورات العارمة لا ينتج عنها سوى خسائر أضخم. ولا يمكن لسلطة متخلفة وفاسدة أن تبدي أي نوع من التسامح تجاه الحضارة إذا لم تربح من ورائها شيئا. ولم تنتبه السلطة الفاسدة أن "آندي" بينما يكدس لها الثروة، يُحكم حول عنقها حبل المشنقة.
وفي لحظة فارقة لا تستطيع الحضارة أن تواصل التعايش مع التخلف، اللحظة التي يفقد فيها التخلف قدرته على إبداء ولو نذر يسير من العدالة. عندما ينكر آمر السجن على "آندي" حقه في التقدم بالتماس لإعادة محاكمته، يثور "آندي" لأول مرة. يتهم الآمر بالتبلد والغباء وانعدام أي حس. فالرجل لم يكتف بإذلاله وتسخيره، لا بل ها هوذا ينكر عليه حقه في الأمل. هذا الأمل الذي كان "آندي" يؤمن به ويبشر به رفاقه اليائسين.
كان يقول لهم :"الأمل شيء جيد، بل لعله أفضل الأشياء". والعصر الذي ينزع الأمل من صدر الحضارة يحكم على نفسه بالنهاية.
وهنا يتجلى درس الحضارة الأعظم، لا.. ليست القدرة على الخداع، بل المثابرة على العمل. كان "آندي" يبني المكتبة، ويعلم الرفاق، ويمسك للسلطة دفاترها، لكنه كان أيضا، وفي كل ليلة يحفر النفق. بمطرقة صغيرة تركها أمام أعين الحرس، قام "آندي دوفرين" بما بدا للجميع وكـأنه معجزة. فالمهمة التي قدر لها "ريد" ستمائة عام، استطاع "آندي" أن ينجزها في أقل من عشرين سنة.
نعم، حضارة العمل تنتصر ببطء وبكثير من الجهد، لكنها دائما تحقق الأهداف المرجوة أسرع من أي وسيلة أخرى. وكان على "آندي" أن يعبر نهرا من الفضلات البشرية نحو الحرية، كما كان على كل حضارة حقيقية أن تعبر فوق الحروب والمآسي والمجاعات والجهل قبل أن تعلن عن قيامها.
ولم يعد "شاوشانك " أبدا كما كان قبل "آندي". ربما ظل سجنا، لكن كانت به مكتبة ورجال يشعرون بالأمل وادارة جديدة كان عليها أن تفكر كثيرا قبل أن تمارس القمع. "خلاص شاوشانك" لم يتحقق لأن رجلا واحدا نجح في الفرار، بل لأنه غير قواعد اللعبة القديمة.
"خلاص شاوشانك" فيلم جدير بأن يشاهده الصغار كما يشاهدون سلاسل الأبطال الخارقين. فهم سوف يدركون سريعا أنهم لن يتمكنوا من الطيران أو تسلق الجدران أو تحطيمها بقبضة عارية، لكن ربما تعلمهم "حكاية آندي دوفرين" أن هناك عالم آخر في نهاية النفق. ربما تمنحهم الأمل.
التعليقات