في عُمر الرابعة عشرة، أتذكر أنني كُنت مُولَعةً بدراسة التاريخ، تاريخ مصر الحديث بوجهٍ خاص!
كانت أحبّ الأوقات إلىٰ نفسي هو الوقت الذي أخصصه لمذاكرة منهجه الدراسي المقرر عليَّ حينئذٍ، والذي لم أكتفِ به وحده كأقراني، بل سعيتُ بدأبٍ وعلو هِمة للتعمق والاستزادة منهُ، مُرتكنةً إلى ما أتاحته لي مكتبة أبي العامرة بأساطين الكتب الرصينة، فمضيتُ أقرأ في أدق تفاصيله، وصرتُ -في قراءتي- أضع للأحداث تحليلات منطقية تتسق من -وجهة نظري- مع كل حدث أدرسه، تحليلات عمدتُ إلى تدوينها في دفتر صغير خاص بي.
....ثم كان ذاك اليوم -إبان دراستي للحملة الفرنسية على مصر- والذي طالعتُ فيه وصفًا تفصيليًا لمقتل الجنرال الفرنسي (كليبر) علىٰ يد (سليمان الحلبي) وكان الكتاب المدرسي يصفه بالبطل ويرى فعلته عملا بطوليا جليلًا!
وبعد أن انتهىٰ المعلم من شرح الدرس وانصرف عنا قليلًا، حينها التفتُ لرفيقتي وهمست إليها بأني لا أرىٰ ما فعله (سليمان) صحيحًا، بل أراه عملًا أهوج يفتقر إلى العقل والتدبير!
ولم أكد أنهي كلماتي حتى وجدت المعلم يقف أمامي مستاءً بشكل كبير مما سمعه مني، منتقدًا طريقة تفكيري الغريبة -من وجهة نظره- ولائمًا لي!
جاهدت وقتها كي أوضح للمعلم أنني لا أقدح في وطنية سليمان، لكنني أرىٰ أن مسلكه في التعبير عن هذا الشعور هو مكمن الخطأ، فهو لم يكن قائدًا محنكًا صاحب خطة وتدبير يحتسب الفعل وردة الفعل ويحصي نتائج النجاح أو يحتوي آثار الإخفاق!
كنت أشرح وجهة نظري ولكن معلمي كان قد صم أذنيه عن حديثي وأصر علىٰ موقفه وكأنه يحتكر الوطنية كلها لنفسه!
وبسبب تلك المناقشة بيني وبين المعلم توقفت عن حضور دروس التاريخ، واكتفيت بدراسة المادة بآلية كالباقيات من زميلاتي وتوقفت عن إبداء أية آراء فيها، وذهبت يومها إلىٰ البيت باحثة عن دفتري الصغير ومزقته وأنا ألوم نفسي علىٰ إبداء آرائي أمام الناس... خاصة بعد أن لمَّحت لي إحدىٰ الصديقات بأنني آخذ الأمور على محمل الجد أكثر من اللازم، وما ضرني لو ذاكرت مثلهم في صمت!!
بعد عشر سنوات من تلك الواقعة أهدتني أمي في عيد ميلادي كتاب (حكايات من دفتر الوطن) للكاتب/صلاح عيسىٰ، وفوجئت به يرى ويكتب نفس رأيي القديم عن (سليمان الحلبي) ويرى أنه ما كان إلا شابا بسيطا متحمسا، افتقد الخطة المناسبة.
حينها تذكرت هذا المعلم وتعجبت من أسلوبه الفظ معي!
وتساءلت لماذا غضب مني إلىٰ هذا الحد؟! لماذا لم يقبل الرأي الآخر؟! ولماذا لم يجادلني بحكمة ومنطق؟! بل لماذا اقتحم حديثًا هامسًا بين طالبتين من طالباته؟!!
تذكرت، وتعجبت، وطرحت العديد من الأسئلة التي لم أعرف إجاباتها للآن، وبالرغم من أنني لم أجد أية إجابة مرضية لكل سؤالاتي، إلا أن سؤالا واحدًا هو ما أعياني أن أعثر له علىٰ إجابة: لماذا مزقتُ أنا -حينها- دفتري الصغير؟!
التعليقات