فور تخرجي عملت في إحدىٰ الشركات الصغيرة بمدينتي.. وذات يوم فوجئت باتصال من أحدهم يطلب فيه معلومات عن فتاةٍ ما، بحجة أنها ابنته ولا يعلم عنها شيئًا!
وقد طلب الاستفسار عن عنوانها، ورقم هاتفها، وحجم تعاملاتها المادية مع الشركة!
كان ردي الطبيعي آنذاك، هو الرفض وذلك لعدة أسباب:
أولًا: لأنني لا أعلم مدىٰ صحة إدعاء الرجل، وإن كان والدها فعلًا أم لا!
ثانيًا: لأنه حتىٰ وإن صح الادعاء، فكيف يمكن أن يكون والدها حقًا، وهو لا يعلم عنها أبسط التفاصيل كعنوان منزل ورقم هاتف!
ثالثًا: إن كان فعلًا والدها وهي بعيدة عنه لتلك الدرجة، فهذا يفتح الباب لاحتمالات عدة، منها أنه يمكن أن يكون شخصًا سيئًا أو مؤذيًا على نحوٍ ما، مما أدىٰ بالفتاة إلىٰ هجره في نهاية الأمر. خاصةً، وأن عُمر الفتاة -في حينها- كان أربعة وعشرين عامًا.
بعد هذا الاتصال بعدة أيام، فوجئت برجل يأتي ويسأل عن ابنته وذكرني بنفسه وأنه صاحب الاتصال السابق وكرر ذات الأسئلة، ورفضت مرة أخرىٰ، وذهب الرجل والغيظ يأكله لعدم قدرته علىٰ الوصول للفتاة!
علمت إدارة الشركة بالأمر، ولاموا عليَّ أنني باعدت بين أب وابنته وما ضرَّني لو قلت له تلك المعلومات التافهة على حد وصفهم!
بررتُ لهم أسباب رفضي، وأن هيئة الرجل وأسلوبه يؤكدان لي أنني علىٰ حق، ومن المؤكد أن وراءه سر ما!
صمتت الإدارة وقتها واكتفت بقول: «ولكنه والدها.. والولاية حقه!»
في اليوم التالي ذهبت إلىٰ عملي وأنا مقتنعة بصواب فعلي، وجاءت إلينا الفتاة، وطلبت من إدارة الشركة ألا يفصحوا عن أية بيانات لها لأي غريب، وقصت علىٰ الإدارة حكايتها المؤسفة؛ وكيف أنها اضُطرت للانفصال هي ووالدتها عن والدها منذ سنوات طويلة لأنه رجل سيء الخُلق والسمعة وسبق له التعدي عليهما بالضرب المبرح مرات عديدة، وأنها علمت من بعض الأصدقاء القدامىٰ لها في بلدتها القديمة أنه يسعىٰ إليها لنهب أموالها والثأر منها ومن والدتها...
وما لبثت الإدارة أن أظهرت التعاطف السريع!
وروت للفتاة أن والدها قد حاول الوصول إليها عن طريقهم فعلًا.. ولكننا أوقفناه عند حده بعد أن نبهتنا إحدىٰ موظفات الشركة! ثم استدعتني الإدارة لرؤية الفتاة بناءً علىٰ طلبها وشكرتني شكرًا خاصًا لأنني أبعدت عنها مصيبة محققة الحدوث! وعندما رحلت حمدت الله علىٰ أنني لم أعط هذا الوحش عنوان تلك الفتاة القوية التي لا يبدو عليها أنها قد قاست كل تلك الآلام ذات يوم...
وأمامي رأيت مدرائي يحمدون الله مرددين: «مسكينة.. رجال أخر زمن!» واصفين قراري بقرارهم الحكيم!
ولكنني لم أسمع في حينها سوىٰ جملة: «ولكنه والدها..والولاية حقه!»
في الحقيقة قد يتصور البعض أن كثيرًا من السيدات يرغبن في الظهور بهيئة الضحايا طوال الوقت، ولكن ما لم يفكر به أحدهم أبدًا...ماذا لو كُنَّ ضحايا بالفعل؟!
التعليقات