بداخله كان يشعر بأن الزمن سيستحيل للصفر عما قريب، فبداخله قلب مؤمن وقلبُ المؤمن دليله..
وقف صاحب العقد السابع من العمر خلف النافذة والمرض العضال قد أنهكه ونال من جسدة ما نال، إنهُ مجرد وقت يقترب كثيراً وقد أصبح يقاس بالأيام بدلاً عن السنين ، و ثمة ذكريات قادمة ستتحول لزمنٍ آفل لكن ختامها مريراً علقماً و هو بعيدٌ عن الوطن و لم يكن ختامها مسكٌ كما كان يظن فيما مضى ....
ها هو يقف خلف النافذة يراقب الثلج الكثيف المنهمر بلا رحمة مغطياً أطراف الأرض، فلا شيئ هنا سوى البرد الشديد القارص والمسربلِ بظلام الشتاء الطويل في بقعةٍ جغرافيةٍ من العالم تكادُ الحياةُ فيها تستحيل، لكنها بلاد الأحلام المنشودة و التي بُذل لأجل الوصول إليها الغالي والنفيس، فكم روحٌ زُهقت قبل الوصول إليها، ولكم أكلت الأسماك حطام جثثِ الحالمين السابحين نحو شاطئ النجاةِ الخالد على الضفةِ الأخرى من العالم الشمالي البارد وفي خيالهم تتراكمُ الصور وتتداخل وتمتزج ألوانها وتضدح لتتشكل أخيراً معالم صورةٍ تشبهُ بالتفصيل صورة و معالم (كاليبوس) تلك التي نسجها أفلاطون في خيالة لتكون المكان الذي لا يُظلم فيه أحد ولا يكون الإنسان فيه إلا إنسان...
الوطن هو الشيئ المحال محوهُ من شريط الذكريات الذي يستعرضهُ المرء بعقلهِ كما يستعرض قارئ البكرة السينمائية محتوى الفلم، حيثُ تظهر لنا صور وتمر بنا مواقف وتتجلى لنا حقائق، كل هذا ونحن سادرون بخيالنا نتأمل ونكتشف بأن شريط الوطن محالٌ أن تمحى منهُ الذكريات ولا يطالها العطب أو النسيان..
نعودُ لصاحبنا السبعيني المريض والمتأمل خلف النافذة لكثبان الثلج المتراكمةِ على جنباتِ الطريق.. كان يخاطب نفسه بحسرةٍ ومرارة وهو يحاورها ويسألها: من أوصلني لهنا، مَن ذا حرمني وطني بعدما امتد بي العمر ودخلتُ أرذله.. لو استطاعَ لساني البوحَ بكل الخيالِ في عقلي ومافيهِ من تساؤلاتٍ شتى لا أجد لها الإجابة لحتى عَّم الضجيج أرجاء الكون ولربما يغلب صوتها صوتَ الطوارق بالسماء..
لم يبحُ صاحبنا بدهاليزِ ألمه حينما وصل لهنا ، تاركاً الوطن ضمن إطار صورةٍ جميله وديعةٍ بخياله يحاول دائماً أن يحميها حتى من نفحاتِ نسائم الذكريات الجميلة و كأنه يريد لصورة وطنه أن تظل مصونةً ولا تطالها زوابع الحقيقة الشرسة حيثُ الحرب التي مزقت وشائج الوطن و فككت ملاحم أعضائه المترابطة و لم يبقى مكانٌ فيه إلا وقد نزف من أثر نصالِ الرماحِ التي اندقت بهِ غدراً و خيانة ، فقد خانهُ الجميع و جعلوا من ظهر الوطن الحامي ترساً يختبئون خلفهُ ليحميهم من سهامِ بعضهم البعض..
مَن أخرجني من جنتي كي أكون هنا؟..
مَن حرمني رائحة مطر بلادي حينما يلامس ترابه حتى أكون قابعاً هنا؟...
مَن أجبرني على الهرب من بلدي بحثاً عن أمانٍ آخر بعدما كان وطني بالماضي نبراس أمان .....
جحافلٌ من شعب وطني تقاطرت لهذا البلد البارد المثلج المظلم شتاءاً كي تنجوا بأجسادها من موتٍ عشوائي بات لا يفرق أبداً ما بين طفلٍ و مجرم ما بينَ أريبٍ و فاجر واستوى دمُ الناسكِ المتبتل سواء مع دمِ الفاسق الزنديق .....
لعَّمريَّ من أخرجني من بلدي هو ذاتهُ من أخرج جدي آدم من الجنة ، لقد وسوس ذاك اللعينُ في عقلهِ و قال له : كُل من شجرةِ الخلد و الملك الذي لا يبلى و هو ذاتهُ من وسوس في عقولهم و قال لهم منفردين : ذبحُكَ لأخيك سيورثك الجنة ، تفجيركَ لذاك الشيئ سيجعلكُ تصحو بين أحضانِ الحورياتِ و أنت تنعمُ بالعيش الرغيد..
هي مجرد لحظة مع الذات والحقيقةِ معاً أوصلتهُ للخلاصة الصادقة ومفادها بأن هذا اللجوء الإنساني الذي نالهُ ، والتأمين الصحي الأبدي الذي حظي به ، حتى هذا المسكن الضيق الذي منحوهُ إياه - وها هو ينظر من أحد نوافذهِ للخارج - كل هذا مستعدٌ أن يبقيه تحت المداس قرباناً لأن يعود لوطنه من جديد رغم كل ما طالهُ من عذابٍ و جراح ....
وبعد تعاقب الأيام اشتد المرض على جسدة الهزيل المعذب وبعد فترةِ عذابٍ وألم فاضت روحهُ نحو السماء تاركةً الجسد مسجىً على سريرٍ في أحدِ غرف المستشفى، لم يبكيه أحد و بعد زمن نقلوا جثمانهُ للثلاجة ، لا وصي له ولا وريث ولو بقي الدهر كلهُ ببطن الثلاجة ما ناشده مخلوق ... بعد ثلاثة أيام نُقل للمحرقة حيث تم التخلص من جثته بحرقها وتحويلها لرماد يوضع في قارورة ، لأن الحرق أقل تكلفة بكثير من الدفن حتى لو نافا ذلك عادات وتقاليد البلد القادم منه هذا المهاجر المنسي أو نافا تعاليم دينه الذي كان عليه .... بعد ذلك رُميت القارورة بمخزنٍ بارد بعدما لُصق عليها ورقة مكتوبٌ فيها تاريخ الوفاة والحرق وبهذا انتهت قصة المهاجر الباحث عن الأمان بملصقٍ صغير مثبتٍ على قارورة و هذا كل شيء ... نعم كل شيء وإلى اللقاء مع حكايةٍ أخرى من حكايات الوطن المعذب .....
مهلا مهلا لحظة من فضلكم !!
لقد نسيتُ أمراً بغاية الأهمية ، نسيت أثناء السردِ أن أقول لكم بأن روحه لم تُحرق بالفرن الذي حرق جسده الميت ، كما أن روحهُ لم تبقى حبيسةَ بلد الثلج ، فعندما أزهقت من جسده طارت نحو السماء قليلاً وإلتقت مع أُناسٍ طيبين كانت أرواحهم قد سبقت روحهُ نحو الملكوت ، تبادلوا فيما بينهم العناق فقد اشتاق لهم كثيراً وكانوا جميعهم سعداء للغاية لهذا اللقاء ، و بعد تجاذبِ أطراف الحديثِ فيما بينهم إعتذر منهم قليلا بداعي زيارة مهمة عليهِ القيام بها ، حيثُ طار بروحهِ شغفاً و شوقاً مسرعاً نحو سماء وطنه.
كانت الحرب لا تزال مستعره بين أفرادِ شعبه لكنهُ لم يلحظ ذلك ابداً ، ما ترائى لهُ فقط هو وطنهُ الجميل الذي عرفهُ أيامَ الصبى و الشباب اليافع ، تأمل وطنهُ من فوق و أخذ يطوفُ حول مدائنهُ و قراه ، فكمية الجمالِ التي شاهدها يُصعبُ على الشعراء وصفها ، رويداً رويداً حتى شاهد من عليائهِ حارتهُ التي هجرها مذ كان حيا ، نظر إليها من الأعلى فلم يجد فيها أيُ أثرٍ لدمارٍ أو خراب ، على العكس فقد كانت جميلةً جداً كما السابق و بعد طول تأملٍ هبط بروحهِ قليلا نحو أحدِ أزقتها التي كانت سابقاً ملعب صباه و مرتع أحلامه ، وبعد برهةٍ سمع صوتاً حنوناً رقيقاً ينبعثُ من جهةِ البيت ، لقد كان صوت أمهِ تناديه قائلةً : لقد عدتَ أخيرا يا حبيبي ، هيا يا فلذةَ كبدي ادخل فقد أصبحت الآن بأمان.
التعليقات