في فترة التسعينات حيث كانت وسائل المعرفة مازالت مقتصرة على الكتاب والجريدة والإعلام المرئي والمسموع في حدوده الضيقة قبل انتشار اطباق استقبال البث الفضائي.
ولذا كنا نفتقد آلية البحث العنكبوتي وكنا نفتقر الى معرفة بعض الشخصيات التي لا يتم تسليط الضوء عليها في وسائل الإعلام والمعرفة المتاحة وقتها ومن هذه الشخصيات كان الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم فلم اكن من المعاصرين لفترة زخمه الأولى في الستينات والسبعينات ولم يكن ممن تصدر لهم دواوين مطبوعة او تفرد لهم مساحة في الصحف فقد كانت اشعاره القديمة التي شكلت شخصيته مازالت من المحظورات التي لا تبيحها الضرورات.
كنت بالكاد اعرف اسمه ورسمه من خلاص صورة قديمة تظهر احيانا في بعض الصحف بشعرة الاشعث وشاربه الكث مع خبر مقتضب عن تتر مسلسل جديد يقوم بكتابته او اغنية يضمنها محمد منير من احد البوماته ..
أما عن معرفتي الحقيقة بأحمد فؤاد نجم كشاعر له مسار خاص جاءت عام 1995 في اليوم التالي لرحيل رفيقه الشيخ إمام عيسى والذي لم أكن حتى اعرف اسمه قبل قراءة نعيه بجريدة الأهرام وما لفت نظري بالنعي هو وصفه بفنان الشعب ثم كثرة المؤبنين من كبار ادباء وشعراء وفناني العصر وقتها حيث وقفت متعجبا من ذلك ولماذا ينعيه كل هؤلاء ! ومن أين جاءوا بلقب فنان الشعب ! واخر علمي ان اخر من نال هذا اللقب كان الفنان يوسف وهبي بعد الموسيقار سيد درويش .. ثم ان العبد الفقير من الشعب ومع ذلك لا اعرفه .
ولكن دهشتي لم تدوم الا لأيام قليله حين اشترى اخي الأكبر عدد من مجلة كانت تصدرها وزارة الثقافة كانت تسمى ( ابداع ) وكانت قد خصصت عدد استثنائي عن الفقيد .. وقد فتح هذا العدد لي ابوابا كثيرة كانت سابقا عبارة عن دهشة واستفسارات وعرفت قصة الثنائي نجم وإمام واكتملت المعرفة بعد ذلك حين استمعت لأحد اشرطة الثنائي الممنوعة بما فيها من أغاني ترتقي الى مرتبة المنشورات السياسية.
فؤاد نجم
ولم يمر من الزمن الكثير حتى جاء عام 1997 وكنت وقتها ما زلت طالبا اسكن بالمدينة الجامعية الأزهرية بمدينة نصر وكنت من هواة ارتياد فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب بمقره السابق بأرض المعارض وقد لفت نظري في النشرة الاسبوعية للمعرض اعلان عن ندوة ضيفها الشاعر أحمد فؤاد نجم .. فنويت ان لا افوتها .. وكعادتي في الذهاب الى المعرض يوميا ذهبت سيرا على الأقدام من باب التريض والتأمل وذهبت الى هدفي مباشرة هذه المرة حيث القاعة المنشودة ومن حسن الحظ ان وصلت مبكرا فجلست في الصفوف الأولى و يمر من الوقت الا القليل حتى اكتظت القاعة عن أخرها .. وبعد فترة دخل نجم فاذا به من كم التصفيق والترحيب ايقنت أنه اسم على مسمى .. وما ان شاهدته يعتلي المنصة حتى لفت نظري مظهرة المغاير للشكل الذي اعتدت ان اراه في الجرائد القديمة .. فشعرة الاشعث اصبح قصيرا واشيب وشاربه الكث قلت كثافته وكساه اللون الرمادي وكان نجم يرتدي جلباب بلدي فظننت انه ارتداه من قبيل الرحرحة في هذه الليلة ولكن بعد ذلك وحتى وفاته لم اراه مرتديا الا الجلباب.
وانطلق نجم يتحدث بحميمه واسترسال وكأنه يجالس اصدقاءه على المقهى وكان نجم متحدثا وحكاءا من الحكائين العظام فلم يكن في حاجه لمدير يدير الندوة والذي اكتفى بالاستماع . وكان يتخلل حديثه القاء نماذج منتقاه من قصائده والتي كانت تشعل القاعة من التفاعل خاصة عندما يلقيها نجم بصوته المميز وطريقته الفريدة .. ومع استرسال نجم طال الزمن الذي مر سريعا حتى تجاوزت الندوة الوقت المخصص لها وبدأ يظهر في القاعة شخصا بشارب وشعر اسود يرتدي حلة رمادية موديل فترة السبعينات وقد كنت اراه كثيرا في التلفاز برفقة الشاعر فاروق شوشة في برنامجه الشهير ولكن من سوء الحظ انني في هذه المرحلة العمرية لم تكن تستهويني مثل هذه البرامج التي افتقدها حاليا .. انه الشاعر محمد ابو دومه والذي كان مسؤولا عن ادارة الامسيات الشعرية بمعرض الكتاب لسنوات .. فكان يدخل مرارا وتكرار لاستعجال مدير الندوة ليعلن انتهاءها بعد تجاوز الوقت المحدد وعلمت بعد ذلك ان نجم كان مرتبط بأمسية شعرية في القاعة الكبرى ضمن مجموعة من الشعراء الأخرين وكان مع تكرار صعود ابو دومه على المنصة تتعالى الصيحات تطالبه بالنزول وترك نجم ليكمل ذكرياته واشعاره ..
ومع تكرار محاولاته الفاشلة في انهاء الندوة امسك باللاقط وقال بلهجة صعيدية مميزة ( يحرق دمكم بقولكم في امسيه في القاعة الكبيرة ونجم حيقول فيها ) وضجت القاعة بالضحك ليمسك ابو دومه بذراع نجم لينزله بنفسه من فوق المنصة مع بعض المزاح والضحك فقد كان الجو في هذه الندوة بعيدا كل البعد عن الرسميات .. وبدأ تقاطر الحضور من القاعة الصغرى الى القاعة الكبرى حيث الأمسية الشعرية والتي كانت قد بدأت منذ زمن ليس بالقصير وقد فرغ معظم الشعراء من فقراتهم . ودخل نجم القاعة الكبرى بترحيب وجلبة قل ان اشاهد مثلها لشاعر ..
وصعد المنصة بروح مختلفة عن الروح التي كان عليها في الندوة وانطلق في القاء الشعر بحماس اكثر من الحميمية السابقة وانتهى نجم وظننت ان الليلة انتهت ولكن بدا ان مازال هناك فقرة اخرى ينتظرها الجميع فقد صعد على منصة الشعر هذه المرة الشاعر محمد ابو دومه ليس لإدارة الأمسية وتقديم الشعراء كما كان يفعل ولكن كشاعر يلتقي مع جمهوره وكانت مفاجأة بالنسبة لي على الأقل حين شاهدت الشاعر الكبير محمد ابو دومة وقد انطلق يلقي بعضا من قصائده بأروع ما يكون ودهشت حين سمعته يلقي بالفصحى فقد كنت من فرط جهلي اظنه شاعر عامية لقرب ملامحه من الأبنودي .. وانتهت الليلة بوقت متأخر عن ما خطط لها وغادرت المكان متخما بزخم لم اعايشه من قبل وانطلقت متوجها من حيث جئت الى المدينة الجامعية بالحي السادس بمدينة نصر سيرا على الأقدام كما اعتدت كل ليلة على سبيل التريض والتأمل و ( التوفير ).
التعليقات