الانضباط الحاد هل يتناقض مع الإبداع فى أرقى تجلياته؟ السؤال تردد فى حياة (نجيبنا) نجيب محفوظ وظل يشغلنا بعد رحيله، لا نزال نقف تحت مظلة (الفنون جنون)، بمقدار نصيب المبدع من الجنون يتحدد موقعه على الخريطة، ولو كان مثل سائر البشر، فلا يمكن أن يسفر الأمر عن شىء يذكر.
أطلق الكاتب الساخر الكبير محمد عفيفى على نجيب محفوظ لقب (رجل الساعة)، فهو منضبط بدقة، مثل عقارب الساعة، متى يقابل أصدقاءه، ومتى يتناول العشاء، ومتى يدخن، وكم سيجارة فى اليوم، وعدد أصابع الكفتة التى سوف يحضرها معه ليلا لعشاء أصدقائه الحرافيش (فلا تزيد أصبعا ولا تقل أصبعا)، كما أنه بسلاح الانضباط، تمكن من ترويض (السكرى) أكثر من نصف قرن، فأصبح صديقًا مأمون المخاطر.
أجاب نجيب محفوظ عن سر هذا الالتزام قائلًا إنه: (يجب أن ينجح فى الدراسة، وفى لعب كرة القدم، ويعشق فى نفس الوقت الاستماع إلى أم كلثوم ومشاهدة ألأفلام، وبعد التخرج ارتبط بوظيفة حكومية، فكان مجبرًا على الانضباط)، ووجد أن الفترة الزمنية التى يستطيع فيها الإمساك بالقلم والكتابة من الرابعة فجرا حتى السابعة صباحًا وبعدها يتهيأ للذهاب إلى المكتب، وعندما تأتيه فكرة قبل أو بعد هذا التوقيت لا يدونها، حتى لا تحدث خللا فى جدول أعماله، يتركها شاردة فى عقله الباطن، ولو كانت جديرة بالبقاء ستنتقل فجرا إلى سن قلمه، لتصبح هى الخيط الأول للإبداع.
مع الزمن حدث توافق بين ساعته (البيولوجية) فى الاستيقاظ والنوم، وساعته الإبداعية، فكان الإلهام يأتيه طوعًا، أيضا من الرابعة حتى السابعة.
كُثر من المبدعين لهم طقوسهم الخارجة عن المألوف، كان الشاعر الكبير أحمد رامى لا يستطيع أن يكتب إلا وهو قابع تحت السرير يستلهم ومضات الإحساس الشاعرى، وكما وصفه الشاعر والرسام صلاح جاهين كأنه يعود إلى رحم أمه.
قرأت حوارًا للموسيقار محمد عبدالوهاب، أشار فيه للفارق بين الشقيقين عاصى ومنصور رحبانى، كان عبدالوهاب قد اقترب منهما، وأصبح على مسافة تكفى ليكشف غموض تلك العملية الإبداعية، المشتركة، السؤال كان يتردد فى حياتهما وزاد بعد رحيل عاصى رحبانى، ولا يزال يتردد بعد رحيل منصور، البعض يؤكد أن عاصى هو الإبداع، رؤية عبدالوهاب لتلك العلاقة تجدها فى تلك الكلمات: (منصور مبدع، إلا أن عاصى يملك منبع وسر وسحر الرحبانية، لأنه – لاسع)، أى لديه شطحات فى سلوكه تنعكس إيجابيًا على ألحانه.
كان مثلا بليغ حمدى هو عنوان (البوهيمية)، لا يلتزم بحب امرأة واحدة ولا بموعد واحد، حتى إنه نسى ليلة زفافه على وردة بالقاهرة، وسافر فى نفس التوقيت إلى بيروت ليودع امرأة أخرى، كان قد ارتبط بها قبل وردة.
سوف تلاحظ حتى المنضبطين ظاهريًا، لديهم تلك اللمحات، مثلًا عملاق الأدب العربى عباس محمود العقاد، عندما أراد أن ينسى حبه لمديحة يسرى طلب من صديقه الفنان التشكيلى صلاح طاهر، أن يرسم لوحة لتورتة تحوم حولها الحشرات، ووضع اللوحة فوق السرير- لأنه كان يعارض اشتغال مديحة بالتمثيل- وقبل أن يذهب لسريره ينظر للوحة بضع دقائق ثم ينام قرير العين، ورغم ذلك فلقد كتب عنها أكثر من قصيدة حب، تؤكد أنه لا يزال عاشقًا ولهانًا، كانت هواية عادل أدهم قبل أن يذهب للاستوديو، هى تلميع أحذيته، واكتشفت مؤخرًا أن حسين فهمى لديه نفس الهواية، شىء من اللسعان مطلوب أحيانا!!
لا بأس بين الحين والآخر، من جرعة مقننة من الجنون، على شرط ألا يعقب الجنون مزيد من الجنون!!.
التعليقات