هناك مصطلحات نبحث لها عن أصحاب، وهناك مصطلحات وُجدت عندما خلقها أصحابها؛ فعندما خرج رجل يُدعى جمال عبد الناصر مناضلًا، داعيًا لحرية واستقلال بلده أولًا، لجأت إليه كل دولة تمنت أن يخرج مثله من شعبها؛ فدعم الجميع، ونادى بحرية واستقلال جميع الدول العربية. وقف وقفة رجل صاحب حق في الكلمة، موكلًا من جميع الشعوب العربية أمام الاحتلال البريطاني، والاحتلال الفرنسي، والاحتلال الإسرائيلي؛ وعندما قامت حرب أهلية في اليمن، ذهب بجيشه لفضّها حفاظًا على أمن المنطقة؛ فأصبح خطابه ليس موجهًا إلى شعبه في مصر فقط، بل أصبحت كلمته في باقي الدول العربية أعلى من كلمة رئيسها الفعلي. وهنا، أصبح رئيس مصر زعيمًا للأمة العربية فعلًا أولًا، ثم لقبًا وشرفًا حمله بكل صدق وأمانة.
جاء من بعده الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، والذي لم يقل عنه وطنيةً وإخلاصًا أبدًا. فالحق يُقال إن المصريين أخذوا حقهم في الدنيا رؤساء شرفاء؛ فلم يمر رئيس عسكري على مصر إلا وكان نعم القائد المخلص الشريف.
جاء السادات وريثًا شرعيًا لزعامة الأمة العربية، وحال بلده على كف عفريت؛ أرضٌ مسلوبة، وهزيمةٌ نكراء من احتلال لم يكن موجهًا لنا في البداية، ولكن عندما دافعنا عن أشقائنا أمام عدوهم، أصبح عدونا نحن أيضا. أعاد تهيئة الجيش، وأقام البلد المنهارة في قبضته الحديدية، فأخذ بها نحو النصر المبهر للعالم بأسره. وفي لحظة حرجة، انخفض المخزون الاستراتيجي للحرب، وهو السبب الذي يمكن أن يقلب موازين الحرب تمامًا؛ فطلب من رؤساء العرب الدعم، فجاء الرد أنهم سيدرسون الموقف ثم يردون. لقد خاف العرب من الانخراط في الحرب حتى لا تتخذهم إسرائيل عدوا أيضًا؛ ولهم عذرهم، لأنهم صحيح يمتلكون الثروات، ولكنهم لا يملكون من يدافع عنها أو عنهم. وعندها، لجأ السادات إلى شاه إيران، فلم يرغب الشاه في انتظار مصر حتى يرسل لها المعونة، بل أصدر أمرًا لسفن محمّلة كانت قد خرجت متوجهة إلى أوروبا، أن تُغيّر خط سيرها متوجهة إلى مصر. ولكن هذا أيضًا لم يكفِ؛ لقد فطن السادات، بعبقريته السياسية والعسكرية، إلى أن الحرب إذا استمرت بلا مساندة من الإخوة – كما توقع – فلن تنتهي على خير أبدًا؛ فبمجرد أن استرد أرضه وكرامة شعبه، أعلن موافقته ورغبته في السلام ووقف الحرب. ولكنه لم يكن يطمح لسلام محلي فقط؛ فإذا كان قد تحدث عن مصر لخمس دقائق في خطابه في الكنيست الإسرائيلي، فقد تحدث في المقابل ما يقرب من عشرين دقيقة عن قضية فلسطين، بأنه لا سلام دائم في المنطقة دون وجود دولة فلسطين وعاصمتها القدس، أي بالرجوع إلى حدود 1967.
وبعد رحيل السادات، لم يحرمنا الله من وجود قائد عسكري لا يقلّ عمّن سبقوه عشقًا للوطن؛ فحدث في عهده نقطة التحول الأكبر في تاريخ العرب، وهي احتلال الكويت. لقد ضربت أمريكا، باحتلال الكويت، عصفورين بحجر واحد؛ تخلّصت أولًا من رئيس العراق الأسبق صدام حسين بعد أن أصبح عائقًا أمام مصالحها، وأراد أن ينفرد بسيادة بلده، وهذا ما لم تسمح به أمريكا، التي لطالما كان لها دورٌ في بزوغ نجم العراق لتكوين قوة أمام إيران، وليس دولة عربية قوية. أما العصفور الثاني فكان العرب جميعًا؛ حيث أثار ما حل بالكويت في ليلةٍ وضُحاها الذعرَ في نفوس العرب، الذين لا يملكون جيشًا يحميهم، أي يمكن أن يحل بهم ما حل بالكويت. فمنذ تلك اللحظة، أصبحت أمريكا هي الحامي لتلك الدول العربية بوجود قواعد عسكرية على أراضيهم، أي أصبح هناك من له كلمة أعلى من كلمتهم على أرضهم، وذلك طبقًا لتصريح سابق للرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، والذي إن لم يكن موجودًا، لاستمرت معاناة الشعب الكويتي لسنوات بعد سنوات. فقد قاد قمةً عربيةً من أجل تحرير الكويت، وعلى الرغم من خوف بعض الدول العربية من مواجهة القوة العظمى المدبرة للاحتلال – مما جعلهم يمتنعون عن التصويت في تلك القمة، ومنهم من أعطى صوته لقرار عدم تحرير الكويت – استطاع مبارك، بثبات وقوة وجمعٍ للأصوات بنفسه، تحرير الكويت، ممارسًا بذلك سلطته كزعيمٍ للأمة العربية.
واليوم، ونحن نعيش كعربٍ فترة تهتكٍ في أصول أغلب الدول العربية، بحروبها الأهلية المدمرة، وضرب الاحتلال في القليل منها، اختلفت الآراء حول مقر زعامة الأمة العربية؛ حيث ادعت أكثر من دولة أنها الوسيط الساعي لحل الحرب ورفع راية السلام. ولكن، هل يمكن أن تذهب زعامة الأمة العربية إلى دولة لا تملك سيادتها المطلقة بوجود قوة عظمى تناصفها إياها؟
أم أن الزعامة باقية على أرض البلد التي لا تفرط في سيادتها أبدًا؛ الأرض التي يحيا عليها شعب لا يهنأ له بال في عيد أو مناسبة في حين شقاء إخوةٍ عربٍ له؟
الأرض التي يقودها الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يمارس الزعامة بشرفٍ بلا لقب، يسعى لحل قضية فلسطين، وأزمة السودان، ومعضلة ليبيا، وضياع سوريا، وغيرهم من الدول الشقيقة.
فعلى أي شيء تختلفون؟
فهل لزعامة الأمة العربية مكانٌ غير مصر، مهما طال الزمن؟
التعليقات