وما الدنيا إلا ألسنةٌ متلونةٌ تخدع، وأعينٌ نقيةٌ تبكي عليها.
نحيا أيامًا نظنّ فيها أن الدنيا خاضعةٌ لحكم البشر، وأن ما بها ليس إلا نتاجًا لتصرفاتهم المختلفة باختلاف طبائعهم، ثم نحيا أيامًا تخيب فيها كل الظنون، فنرى الدنيا هي المسيطرة على كل خيوط اللعبة، تتقدم بخطى ثابتة بلا تأثير منّا. فمن استطاع التكيّف نجا، ومن عجز غرق، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فإذا تأملنا عصرنا الحالي، لوجدنا الكذب قد استقرّ في البشر صفةً أصيلة؛ حتى أصبح يخنقنا بيديه. نتوقع الكذب قبل الصدق، ونسيء الظن قبل إحسانه. وليس ذلك عيبًا فينا، بل تخوفًا من تكرار الخداع مرةً بعد أخرى.
انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي قصة انفصال ثنائي من أشهر المؤثرين في الآونة الأخيرة؛ فلاقى تعاطفًا في البداية، لكن هذا التعاطف لم يدم طويلًا. إذ سرعان ما بدأ الجمهور في الهجوم القاسي، متهمين الطرفين بالسعي وراء لفت الأنظار وكسب "التريند" بلغة العصر، حتى ساد هذا الرأي، رغم محاولات التبرير المستمرة من الطرفين، لكنها كانت بلا جدوى.
كان مشهدًا مثيرًا للتفكير بالنسبة لي؛ فذلك الشعب العاطفي بطبعه، كيف وصل به الحال إلى هذه القسوة؟ ولكني لم أستطع لَوْمَهم أبدًا، ولا أرى حقًا للثنائي في لَوْم أحد، ظالمين كانوا أم مظلومين؛ لأنهم يجب أن يقدّروا حالة هذا الشعب الذي تعرض لخداع مماثل مرارًا، يحزن ويتعاطف ويساند بكل طاقته ومشاعره، ثم يستيقظ على ألم صفعةٍ مدوّية، يرنّ صداها من شدّتها، بعدما يكتشف أنه كان ضحيةً لقصةٍ مفبركة، غرضها المكسب المادي فقط.
وقولُ حقٍّ أُحاسَبُ عليه: إنني أُحيّي من يتعلّم من تاريخه جيدًا.
فعند النظر إلى كل مصائبنا الحالية، على الصعيدَين المحلي والدولي، نجد أن التاريخ يُعيد نفسه، وهم يدركون تمامًا أننا تركناه بما فيه، واستكبرنا عن أخذ العبرة منه، فلم نجْنِ سوى سوء المصير.
صدقنا أن سوريا قد تحررت ونالت استقلالها الحقيقي بخروج المعتقلين من السجون، وصدقنا أن مأساة الفلسطينيين انتهت بوقف إطلاق النار، وأن المسألة ما دامت قد ارتقت إلى مستوى المفاوضات السياسية، فلن تعود إلى أرض المعركة الملطّخة بالدماء مرةً أخرى.
رغم أن مدّعي هذا الكلام لنا معهم تاريخٌ طويل من الكذب والنفاق والخداع، الذي لم يُؤدِّ يومًا إلا إلى هلاكنا.
هؤلاء هم من كانوا يقسمون لنا بأنه لا بوادر حرب حتى في الوجدان، ثم أفَقْنا على نكسة الخامس من يونيو، والحرب على الأبواب.
والحقيقة أن الأمر قد تجاوز هذا الحد؛ فلم يعُد الكذب مقتصرًا على الساسة والمشاهير فحسب، بل أصبح يُزرع في نفوس الصغار حتى يشبّوا ثم يشيخوا على قناعةٍ بأن الحقيقة لا تُنجي دائمًا.
يُجمِّلون الكذب في صورة "الكاريزما" المطلوبة لحسن القيادة، فيقول الإنسان ما يجعل صورته أجمل، حتى وإن كان كاذبًا.
فإن كان عليّ أن أنصح نفسي، فسأقول لها: لا تُصدّقي أحدًا أبدًا، فالكلّ كاذبٌ حتى يُثبت العكس، لا العكس؛ فهذا أضمن لصيانة القلب والمشاعر.
وكالعادة، لن يتضرر إلا الصادق، الذي لن يُصدَّق بعد الآن، وإن أقسم على صدقه، بعدما استسغنا الكذب.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
التعليقات