ننام على خبر سيئ، ونستيقظ على خبر أسوأ. يومًا بعد يوم، أصبح هذا هو الرتم الطبيعي لحياتنا، ولكن إلى متى سيستمر هذا؟! ويا ليتها أخبار سيئة في نطاق الحوادث المتعارف عليها، ولكن ما يجعل التعايش معها أمرًا مستحيلًا أن أغلبها أخبار عن جرائم مخجلة، ماسة بالشرف، لا توحي إلا بأننا نعيش في غابة كبيرة، لا تأوي إلا مجموعة من الحيوانات المفترسة التي ترتكب الجرائم، وحيوانات ضالة تساعدها على تنفيذ جرائمها باحترافية شديدة.
هذا ما يظهر للخارج، أما المصريون فلا يشعرون أمامها إلا بالخوف، وقبضة القلب، وزيادة الاحتياط من القريب قبل البعيد، وبالتالي تدمير أغلب العلاقات الحقيقية التي كانت تربط بين المصريين، من صلة رحم وصداقة أقرب من الإخوة، وجيرة أوصى عنها النبي (صلى الله عليه وسلم).
يتساءل المصري: هل حقًا استوحشت الناس؟ ولكن، إن كان أهلي وأصدقائي بهذا الخير، فمن أين أتى كل هذا الشر الموجود في الأخبار، وكأن الناس جميعًا أصبحوا مجرمين؟! هل هذه القضايا حقيقية؟ أم أنها من فعل الصحافة المضللة، البعيدة كل البعد عن المعايير السامية للإعلام ككيان تنويري في المقام الأول؟!
بين سؤال وجواب، ومراقبة وصدفة، تيقنت أن تلك القضايا حقيقية، ولكنها ليست بذلك السوء الظاهر لنا. تكون الحقيقة هي قضية تحرش أستاذ بطالب، أي أمام ضحية ومجرم يستحق العقاب، لتجد الخبر أن جميع طاقم التدريس كان على علم بما يفعله ذلك الأستاذ، بل وكانوا يساعدونه في تنفيذ جريمته؛ أي أمام ضحية وكيان بالكامل يستحق العقاب، لنجد في النهاية أنه لم يُعاقب سوى المجرم الحقيقي فقط؛ لأن القضاء المصري بنزاهته لا ينظر إلا للحقيقة.
وتكون الحقيقة وفاة طالبة جامعية إثر سقوطها من الطابق الخامس، فتتفنن الصحافة في تطويع الحقيقة لجعلها أكثر إثارة وجذبًا للملايين؛ أكان انتحارًا أم قتلًا؟! وفي كل الاحتمالات، يجب أن يأخذوا بالأسباب نحو الجانب المُخلّ، الماسّ بالشرف، فيما يعرف عالميًا بـ"إباحية الغضب"، حتى وإن تسبب هذا في انشغال الرأي العام بقضية لا دليل على صحتها؛ فالهدف كان جني المزيد من المشاهدات والتربع على قمة التريند، وقد كان، مهما كان المقابل. وغيرهما من القضايا التي نقرأ عنها كل يوم، وأقل ما يقال عنها إنها قضايا يشيب لها الولدان، ولكنها في الحقيقة مجرد جرائم تحدث في العالم كله.
إذن، هل أصبحت أم الدنيا غابة مثلما تظهر أمام العالم الآن؟! لا والله؛ فالشر موجود في كل مكان، ومن الطبيعي أن يكون أكثر من الخير، ولكن يظل للخير الطاهر سطوة قادرة على تهميش الشر مهما وصلت درجة قساوته. ولكن، ما يحدث الآن أن الخير لا يظهر أبدًا؛ لسبب مجهول، يتم تسليط الضوء دائمًا على الشر، وإن اقترب الخير من مصدر الضوء أطفأوه سريعًا.
لأنه، وببساطة، أصبح الإعلام في أيدي الجميع؛ فللجميع دور فعّال فيه في ظل وجود المنصة الإعلامية الأكبر حاليًا: "السوشيال ميديا". فهي تسنّ أسنانها عند الاتهام، وتبردها عند التبرئة؛ فلا يتذكر الناس سوى الجريمة الشنعاء.
ولكن الحرية حق من حقوق الإنسان طالما استحقها؛ فلك الحق في التعبير عن رأيك ما دمت صاحب ضمير ووجدان لا يظلم ولا يعتدي على شرف أحد بلا دليل. أما من كان على غير هذا، فليس له الحق في أخذ حريته؛ وهذا ليس تعسفًا، بل لأن حريته أصبحت تجور على حرية الآخرين.
هذا للأشخاص؛ فماذا عن المواقع الإخبارية التي تتداول أخبارًا كاذبة مثيرة لتلك البلبلة؟ من المعروف أن أغلب تلك المواقع المضللة ليست بمنصات معتمدة من المجلس الأعلى للإعلام، ولكنها كانت متروكة طالما التزمت بمعايير الإعلام النزيه. ولكن، عندما تنتهك تلك المعايير في سبيل تحقيق الربح المادي، في حين نسبها - ولو خطأ – إلى الإعلام من قبل الجمهور البسيط؛ فهنا لا بد لها ولأصحابها من وقفة حساب وعقاب، إن وصل الأمر.
إن مصر أم الدنيا، بلد الأمن والأمان، شريفة بأهلها الكرام، أصحاب المجد، والحق في الاحترام. كانوا وسيظلون أمام العالم القدوة الحسنة في التمسك بتعاليم دينهم أولًا، وحبهم للحياة وتذوقهم لجمالياتها من ثقافة وفنون ثانيًا. وأما عن عشقهم وولائهم لوطنهم، فهذا أمر مفروغ منه، مما يجعله خارجًا عن أي تصنيف.
دمنا مصريين، ودامت مصر درة للشرق، وشوكة في ظهر كل ظالم ومعتدٍ.
التعليقات