أفنيتُ شطرًا من سنين عمري الثمينة في مُساءَلة الماضي، واستشراف القادم بميزان القلق، حتى كادت أعماق روحي تُستنزف بين حسرةٍ على ما فات، وخوفٍ مما هو آت... لولا أن تغمّدتني رحمةٌ من الباري سبحانه، أسبغت عليّ ثوب السكينة، فعلّمتني كيف أكون رفيقاً بنفسي حين قسوتُ عليها.
فإذا همست لي نفسي بنبرة الندم: "لو كنّا سلكنا هذا الدرب، أو اخترنا ذاك المسار"، أُسكِتُ صوتها بيقينٍ راسخ: "ومهما فعلنا، ومهما بذلنا، ما كان لنا أن نحصد سوى ما كُتِب لنا في لوح المقادير، فليس لنا من الأمر إلا النصيب المقسوم".
وحين تأتيني مُحمّلة بأجنحة الطموح قائلة: "هيّا نقتحم هذا المجهول، ونخوض غمار تلك التجربة"، أستقبلها بقلب مطمئن: "نعم، فلنفعل ولنُجرِّب، فتلك رسالتنا في عمارة الأرض، لكن لا تتوقعي من ثمار الغرس أكثر مما قُدِّر لنا من رزق... فكم من بذرة أُحسِن سقيها فآتت أُكلها يسيراً، وكم من بذرة تُرِكت للطبيعة فأثمرت أضعاف ما توقع الغارس".
حتى تلك الخطوات التي نخطوها في دروب الحياة، ما كنّا لنخطوها لولا أن الله تعالى شاء لأقدامنا أن تلامس تلك البقاع، لا لأننا امتلكنا قدرة المسير بمعزلٍ عن مشيئته. وما ظننّا أنه قوة منّا، ما هو إلا تجلٍّ لقدرته فينا.
وكل تلك الأشياء التي تسرّبت من بين أصابعنا، وانفلتت من قبضة أيدينا، ما انفلتت لقصورٍ في إحكامنا أو خللٍ في تدبيرنا، بل لأن الله في حكمته العليا لم يشأ لها أن تستقر في حيازتنا أو أن تُصبح من نصيبنا، فكل وعاء بما قُسِم له ينضح.
بل حتى ذلك الفضل الإلهي الذي نسعى إليه جاهدين، ما كان لنا أن نبلغه إلا بفضلٍ سابقٍ منه سبحانه، أن مَنّ علينا بالسعي إليه، وأنار لنا الطريق إلى رحابه. فالنعمة ابتداءً هي أن يهبك الله سبحانه القدرة على طلب النعمة، والمكرمة الأولى هي أن يرزقك حُسن السؤال قبل أن يرزقك حُسن الجواب.
هكذا أدركتُ أن ثِقل الحياة ليس في أن نحملها، بل في الظن بأننا وحدنا من يحملها... وأن جمالها ليس في أن نملكها، بل في أن نستمتع بما قُدِّر لنا منها... وأن سعادتها ليست في أن نصنعها كما نشتهي، بل في أن نشتهي ما صُنِع لنا منها.
التعليقات