كنت في زيارة لصديقة تهوى لعبة (البازل) وهي لعبة يتفنن فيها اللاعبون في جمع قطعا متفرقة من الصور غير المكتملة لتكتمل لهم في النهاية صورة جميلة. أخذتني صديقتي لتريني أحدث ما قامت بتركيبه وجمعه. لديها صور مكونة من آلاف الأجزاء وأخرى لمئات القطع وفي نهاية التركيب تضع كل لوحة في إطار أنيق متباهية بما حققته. آخر لوحاتها منظرا طبيعيا ساحرا لجبال وزروع وأزهار وطيور. مشهد بديع بكل المقاييس وقفته أمامه متأملة دقة التصوير وبراعة وصبر صديقتي وعملها الدءوب لتكمله وتحصل على الصورة الكاملة.
تركتني في تأملي لفترة ثم سألتني إن كنت ألاحظ شيئا. هززت رأسي نافية وأجبت أن كل ما ألاحظه هو الوقت والجهد والعزيمة والإصرار.
- "هل هذا كل ما لفت انتباهك؟" سألتني فأجبتها على الفور أن نعم، بالتأكيد. اقتربت مني وأشارت بيديها لفراغات بين القطع لا يلحظ وجودها إلا خبير ولا تفتفت لها إلا عين متفحصة. ضحكت متعجبة من نفسي كيف لم ألحظها وأشارت لها صديقتي بتلقائية. هل لأنني ضعيفة الملاحظة أم لأنني ربما لاحظتها لكن كذبت نفسي ولم أرد أن أعلق سلبا على جهدها الكبير؟! وفجأة وجدت نفسي أحلق في الفراغات الضائعة والقطع الناقصة. شعرت بها تكبر وتتمدد أمامي فتحجب عني جمال المشهد الطبيعي وبهاء ما أنجزته من صبر لجمع آلاف القطع جنبا لجنب لتشكله في النهاية. تداخلت الألوان وتحولت القطع إلى مجرد أجزاء كرتونية مفككة لا رجاء منها.
انتهت زيارتي وغادرت منزلها ولا زالت قطع البازل الناقصة تسيطر على تفكيري. كم تشبه حياتنا هذه اللوحة مفككة القطع التي نبذل جهدا حثيثا لنكملها قطعة قطعة يوما بيوم! نسعى من أجل مشهد جميل وحياة سعيدة. نبحث ونسعى للأفضل. نصبر ونتحمل نحاول فننجح مرة ونخطيء مرات. نشعر بالضياع أحيانا وتتفرق بنا السبل لكننا نجد طريقنا ونصفق فرحين حين ننجح في لصق قطعتين فثلاثة فأربعة ويبدأ المشهد في الظهور.
أحيانا تضيع قطعة أو تهتريء، ربما نفقدها للأبد لسبب أو آخر أو ربما في حالات نادرة يأتي الصندوق ناقصا لأسباب خارجة عن إرادتنا. هل نتخلص من اللعبة برمتها وقتها أم نبذل قصارى جهدنا ونجتهد لنحصل على أفضل النتائج؟! من الحكمة ألا نتذمر ونلقها جانبا ونرفض استخدامها بل كل الحكمة في المحاولة والإصرار. ربما نفقد بعض قطع مما نرغب فيه في حياتنا لأسباب لا نملك ردها لكن علينا أن نكمل جمع ما نستطيع وعدم الاستسلام. في نهاية الأمر ومع اكتمال المشهد كله ستذوب الفراغات وستطغى روعة الإنجاز على كل النواقص التي ربما لا يعلم بها أحد غيرنا. كن جميلا ترى الوجود جميلا وتجاوز عن النقائص واسعَ وراء ما يمكن تحقيقه.
حياتنا تشبه لوحة البازل متعددة القطع نجمعها بالجهد والتعب. نمسك يوما بقطعة ونغيرها في اليوم التالي. نبدأ بجزء ثم نتحول عنه لجزء آخر. نستصعب أمرا ثم نجده قد تيسر لنا بالصبر والعمل. نفرح ونحزن؛ نشعر بالملل ثم تدب الحماسة في أوصالنا. نعمل فرادى أو في جماعات لكننا نصل لغايتنا في النهاية. كل ما علينا عمله هو التفكير في الكل والتغاضي عن كل ما لا نستطيع تغييره. فلندرب أعيننا على التقاط ما اكتمل لا ندب الحظ على ما نقص. لا يعنى هذا الركون والاستكانة بالطبع بل الإيجابية والرضا والعمل حثيثا على الحصول على أفضل النتائج فليس في الإمكان أفضل مما كان. وليس كل ما ينقصنا سببا في الإحباط وفقدان العزيمة والأمل. ولنتذكر القاعدة التي تقول(ما لا يدرك كله لا يترك كله).
التعليقات