وكأن الدنيا أصبحت دار عدالة، والمتحدثون فيها قضاة، ومعارفهم هم المذنبون دائمًا. لا يكاد يخلو مجلس، سواء كان رسميًا أو عائليًا، من إصدار أحكام يقينية متكررة على أشخاص مختلفين. اللافت للنظر أن أغلب تلك الأحكام تُبنى على مبررات سطحية ولكنها متكررة.
كم مرة سمعنا وصفًا لشخص يمتلك أبشع الصفات؛ كالأنانية، وحب التملك، والحقد، والعنف، وسلاطة اللسان، ويُبرَّر ذلك بفقره؟ يُقال إن الفقر قد ضيّق عليه الدنيا وأثقل كاهله بالهموم، وجعله مكبوتًا نتيجة حرمانه من تحقيق رغباته. إلى جانب هذا الوصف، تجد دائمًا نموذجًا آخر يُقدّم للمقارنة: شخص غني متواضع، طيب القلب واللسان، يُقال عنه: "هكذا يكون من شبع في صغره وتهنأ في شبابه".
تنتقل أذناك من هذا الرأي إلى رأي آخر في المجلس نفسه، لكن هذه المرة الهجوم موجّه نحو شخص غني. تُقال عنه الصفات المعيبة نفسها: الأنانية، الحقد، العنف، وسلاطة اللسان. وتجد المبررات جاهزة كالعادة: "هكذا هم الأغنياء، من كثرة ما لديهم من المال، ومن كثرة من يقول لهم نعم على كل طلباتهم، أصبحوا يعتقدون أنهم أفضل من الجميع، فيتصرفون بغطرسة ويجهرون بأخبث الصفات". ثم يُقدّمون نموذجًا مضادًا لشخص بسيط يتعامل مع الحياة برضا وود، قانعًا بما قسمه الله له.
حينها، تبدأ تفكر: هل المال مفيد أم مؤذٍ؟ هل هو مصلح أم مدمّر؟ وهل للمادة تأثير جوهري على النفس البشرية يجعلها تنتقل من النقيض إلى النقيض في الأخلاق والقيم؟
إذا كانت الإجابة نعم، فلماذا لم يكن التأثير موحّدًا؟ لماذا لا تكون المادة دائمًا مصلحة أو دائمًا مدمّرة؟
الحقيقة أن لا علاقة بين المادة والأخلاق. المادة ليست إلا مبررًا نلقي عليه أخطاءنا بلا خوف من لائمة أحد. لو أدرك الغني أنه لا يملك الحق في الغلظة والتعالي لمجرد امتلاكه المال، ولو أدرك الفقير أنه لا يحق له التنفيس عن غضبه بالحقد والعنف، لما تجرأ أي منهما على الجهر بسوء أخلاقه بهذه الجرأة المشينة.
لا حق لأحد في أن يكون صاحب أخلاق سيئة، ولا واجب على أحد أن يتحمل سوء خلقك مهما كانت مبرراتك. أنت مسؤول عن تقويم نفسك والعمل على التحلي بأجمل الصفات، لتنال رضا الخالق وتفوز بجنة الآخرة، بل وبجنة الدنيا أيضًا.
التعليقات