(هذا محض خيال)، عبارة كنا نتداولها فيما بيننا بمنتهى الثقة واليقين. عندما نعجز عن تصديق أمر أو يطرح أحدهم فكرة مجنونة لا تخطر على قلب بشر كان الرد المنطقي الوحيد بين جنبات هذه المقولة. تظهر أفلام الخيال العلمي لتقدم لنا قصصا من وراء الواقع. يجنح المؤلفون في تصوراتهم فيحكون لنا قصصا عن مدن المستقبل عجيبة الشكل منزوعة الروح وكيف سيسيطر عليها أشباه البشر من الآلات والروبوتات. ينبهر بعض البشر مصدقين بينما يزم آخرون شفاههم تهكما قائلين إنه خيال جامح!
وتمر السنون وتتحقق نبوءات المؤلفين ويظهر ما يسمى بالذكاء الاصطناعي الذي ينافس العقل البشري الذي خلقه وأوجده في المقام الأول. تحولت برامج الكمبيوتر المتقدمة إلى منظومة متكاملة من التفكير واتخاذ القرار بل وحل المشكلات وتذليل العوائق، ورويدا رويدا توغلت في كل مجالات الحياة استعدادا لما يزعمه البعض من استبدال مهام بشرية أساسية. نرى الذكاء الاصطناعي اليوم يقود طائرة ويجري جراحات دقيقة ويقوم بدور المعلم والطاهي وأصبح مستشارا خاصا لكثير من الناس فلا يخطون خطوة في حياتهم اليومية دون سؤاله أي طريق يسلكون بل وأي كلمة ينطقون.
وككل المهن البشرية التي غزتها هذه التقنية المتقدمة لم تكن الترجمة بمعزل عن غمار الذكاء الاصطناعي. ظهرت البرامج التي تترجم النصوص المكتوبة والمنطوقة من لغة إلى أخرى قبل أن يرتد إلينا طرفنا. أشارت أصابع التهديد الإلكترونية للمترجمين أن استعدوا لاستبدالكم بمحركات ومترجمين آليين. رفض البعض الفكرة بينما رأى آخرون فيها منقذا ومعينا يسهل مهمة الترجمة ويقضي لهم حاجتهم في زمن قياسي يتيح لهم مضاعفة الربح والإنتاج. زعم المرحبون باستخدام الذكاء الاصطناعي أن الترجمة مثلها كمثل كل المجالات التي اخترقها بل هي أسهل لأنها محكومة بنص ما على المترجم إلا إدخاله في النظام ليخرج له نص آخر مترجم للغة أخرى بل ولعدة لغات عرفها أم جهلها.
كنت من المتشككين بل والرافضين للفكرة حتى وقع بين يدي نص لم يحتج لأكثر من بضع صفحات قليلة حتى أجزم أنه وليد المخاض الآلي المزعوم. من حسن حظي أن أتاحت لي هذه التجربة إثبات وجاهة وجهة نظري وصحة تصوري. مجموعة قصصية مترجمة إلى العربية لم يبذل مترجمها الذي كتب اسمه فخرا واعتزازا بمجهوده أي جهد سوى تمريرها في البرنامج وقص ولصق الجمل فقط لا غير. العبارات متراصة لا رابط بينها ولا سلاسة في معناها. نص عقيم يعرف كل من يقرأه أنه مترجم وهذه نقيصة وشائبة تشوب المترجم فالترجمة السليمة لا يجب أن تكون كذلك بل يجب أن تكون سلسلة محكمة منسابة كما لو أنها كتبت باللغة الهدف.
لا أنكر أن برنامج الذكاء الاصطناعي قد أدى مهمته على أكمل وجه. لم يترك جملة ولا عبارة إلا وأوجد لها نظيرها العربي لكن كانت النتيجة نصا مبهما يفتقر إلى كثير من مقومات اللغة. ترجمة النص حرفيا لا تعد إنجازا. لقد استأت جدا من المترجم الذي لم يحاول حتى إعادة قراءة النص لمعرفة ما إذا كان سليم اللغة والمعنى والمبنى أم لا. ترك عبارات مبهمة تلزمها حواشي ليفهمها القاريء العربي. شعرت أنه استهان بي كقاريء أعطيته من وقتي ووثقت في ترجمته فلم يحاول شرح ما استعصى على فهمه ولم يراعِ اختلاف الثقافات فيوضح لي مراد كلماته المنقولة من لغتها الأصلية. بعض العبارات المترجمة لم أرها إلا مكتوبة بلغتها الأصلية من فرط نقلها الحرفي المباشر. ذابت روح النص في الآلية وضاع جهد المؤلف الأصلي.
مكتوب على الغلاف أن الترجمة قام بها فلان لكن هل هو حقا من قام بها؟ لقد ظلمنا نحن القراء وظلم نفسه بهذا الادعاء. لم يترجم النص وأتحداه أن يعترف بذلك. اقتصرت مهمته على تلقيم الذكاء الاصطناعي النص ثم تعامل معه بغباء بشري حيث وضعه جنبا إلى جنب كنص مترجم وقدمه لنا لنقرأه دون أن يراجعه أو يحترم عقولنا وآدميتنا. إن كان لا مفر من استخدامه - وإن كنت مازلت من الرافضين للفكرة- فعلى أقل تقدير عليك عزيزي المترجم بمراجعة الناتج وإعادة قراءته وتحرير النص بما يتناسب مع اللغة العربية ومفرداتها وتراكيبها. لماذا لا يكتب أنه تم ترجمته بواسطة ترجمة آلية وليترك لنا حرية التصرف رفضا أو قبولا للقراءة في المقام الأول. أيها المترجم، عليك مراعاة اختلاف الثقافات فتضيف حواشي تشرح فيها ما استعصى على الفهم أو ما تختص به حضارة عن الأخرى. مفردات العامية التي وضعتها بكل أريحية تحتاج لبيانها واسماء الملابس وغيرها من مفردات الحياة اليومية تحتاج للتوضيح فالقاريء العربي يسعى لقراءة أدب الشعوب الأخرى والحضارات المختلفة ليضيف إلى معلوماته وثقافته فلا تبخل عليه بها فأنت رسول أمين صاحب رسالة لا مجرد ساعي بريد ينقل رسالة لا يعلم فحواها!
التعليقات