في الوقت الذي كان فيه بابلو بيكاسو يرسم في باريس لوحته الشهيرة "جورنيكا" عام 1936 كرد فعل لهجوم النازي على القرية الإسبانية "جورنيكا" وتحطيمها بالقنابل، ويرسم سلفادور دالي لوحته "أشلاء الحرب الأهلية"، كان محمود سعيد يفكر في الإسكندرية كيف يمنح لوحته "المدينة" السعادة والجمال والخلود والسلام.
ولكن يطلق بيتر بلوم (الأمريكي من أصل روسي) اسم لوحة محمود سعيد "المدينة" على لوحته التي أنتجها عام 1937 ويملؤها بالأشلاء المتناثرة والصخور والتماثيل المحطمة والمباني المنهارة وتظهر امرأة بائسة وسط هذا الركام والدمار والهلاوس حول انهيار الحضارة.
يستكمل محمود سعيد لوحته "بنات بحري" أو "جميلات بحري" في عام 1937 ويننقل شخوصها إلى القاهرة ويطلق عليها اسم "المدينة" (ألوان زيتية على توال) والتي تصور العديد من المظاهر الشعبية بالمدينة ويظهر النيل ومراكبه البيضاء في الخلفية كما يظهر بائع العرقسوس وحاملات الجرار والرجل والطفل والحمار كوسيلة ركوب شعبية، لتصبح لوحة "المدينة" من أشهر وأجمل لوحاته.
في "جميلات بحري" يرسم سعيد البنات الثلاثة "يتفجر فيهن سحر الأنوثة وعبق البحر، أشرعتُه البيضاء نصالٌ تتحدى القدر والعدم، قواربُه تفرض وجودها فوق الأزرق اللانهائي" كما يرى الفنان مكرم حنين.
بينما نرى في "جورنيكا" بيكاسو أشلاء الجثث تتحد مع العدم والدمار، ورأس الثور، ورأس الحصان، ورأس الأم الثكلى، والرأس الجريحة الملقاة على الأرض، والأيدي الممزقة التي تئن بفعل آلام التفتيت التي أحدثتها القنابل، وكل ذلك في ثوب من الرماديات والأشكال التكعيبية التي اشتهر به بيكاسو بعد ذلك.
أما بنات "المدينة" أو "بنات بحري" فقد خرجن من أعماق بحور محمود سعيد ليملأن الدنيا بهجة وسعادة وجمالا وألوانا ناضرة وحية، ويبعثن برسالة أن مصر – في ذلك الوقت – هي بلد الجمال والأمان والسلام.
تقول إحدى فتيات لوحة "جميلات بحري": ها نحن الآن على شاطئ الإسكندرية نفوح بالعبير ونتلفع بالملاءة البلدي، ونسير أحرارا كما أراد لنا الفنان العظيم، الذي أخرجنا إلى الوجود في ترنيمة شجية على شاطئ بحري بالإسكندرية تبادلها مع ألحان سيد درويش (الذي توفي عام 1923)، ليؤلفا ثنائية رائعة ويتبادلا أجمل حوار بين اللون والنغم.
نحن ثلاثي لوحة "المدينة" أتقدمهم أنا "حلاوتهم" بفستاني الأصفر وكرانيشه السفلية الفضفاضة وحذائي الأبيض اللامع وأتشح بالملاءة السوداء، وخلفي بخطوة واحدة يسارا ويمينا، "ست الحسن"، و"جميلة" التي وقع في هواها "حميدو" بائع العرقسوس على يمين اللوحة الزيتية، الذي ينتظرنا في عصاري كل يوم ليسقينا من عرقسوسه على مرأى من حمامة السلام في مقدمة اللوحة، والكلب الذي يركض مسرعا بالقرب من سور الكورنيش، والأشرعة الخلفية البيضاء، وصاحب الحمار (ذي الوجه الإخناتوني) وابنه الصغير اللذين يحضران في هذا الميعاد والمكان يوميا ليشربا العرقسوس بالمجان على حسِّنا، وكأنها منحة يمنحها "حميدو" لصاحب الحمار الذي يعرف سر ولعه بجمالات.
بينما تعطينا ظهرها "سيدة" حاملة "بلّاص العسل الأسود" التي تشاجرت معنا ذات يوم لأنها كانت تريد أن تظهر وحدها في مقدمة اللوحة، ولكن الفنان نفاها إلى الوراء. وعلى الرغم من كل ذلك لم تجد "المدينة" التقدير العالمي لها، مثلما رأينا حول "جورنيكا" التي أُلفت عنها كتب كثيرة.
إن المزاج الأوروبي والغربي عموما، ينحو إلى تخليد الحروب والقتال والكراهية أكثر من تخليده للسلام والأمان والجمال، ولنأخذ مثالا على ذلك كم الأفلام التي أنتجت حول الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتخليد الإلياذة والأوديسة، وحرائق نيرون لروما، حتى آلهة جبل الأوليمب لا تتوقف عن الدسائس والعراك والحض على العداء والكراهية والحكم الأبدي على أنصاف آلهة وأشخاص حاولوا التحرر من قبضتهم وكراهيتهم كما نرى في قصة بروميثيوس (سارق نار الآلهة لينير درب الإنسانية) والحكم على سيزيف وتنتالوس وغيرهما.
يقول محمود البسيوني في كتابه "الفن في القرن العشرين": "إن الثور في "جورنيكا" يرمز لوحشية النازي وقواه المخربة التي لا يحكم فيها عقلا أو قيما أخلاقية أو إنسانية، والحصان يرمز إلى أسبانيا الجريحة التي تتألم وتصرخ وتتفتت من آثار هذا الهجوم الوحشي، أما الرأس التي تصيح والذراع الذي يحمل المصباح فيشيران إلى الضمير البشري الذي يلقي ضوءا على هذه المأساة ليلومها ويندبها، بل ويدعو الإنسان إلى التأمل في أدواته التخريبية التي تحطم الحضارة وما بناه عبر العصور غير عابئ بالقيم.
لقد عبر بيكاسو عن كل هذا من خلال بعض لوحاته وأشهرها "جورنيكا"، أما محمود سعيد فقد عبّر عن الرقي والجمال والإنسانية في معظم لوحاته، وليس هناك شك في أنه تأثر ببعض المدارس الأوروبية في الفن التشكيلي خلال القرن العشرين وعلى رأسها الانطباعية والتأثيرية وكيفية توزيع الأضوء والظلال، حيث التحق بالقسم الحر بأكاديمية جراند شومبير لمدة عام ثم أكاديمية جوليان، وزار متاحف باريس ومعارضها وقرأ حول الفنون في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، لكنه لم ينس في يوم من الأيام أنه ابن هذه الحضارة الشرقية الإنسانية المتسامحة، التي تفهم الجمال المستتر وراء الظواهر، وعلى أرضها ظهرت أول دعوة للتوحيد من خلال الجمال الذي رآه أختاتون ونادى به، لتنتقل دعواه إلى أبنائه وأحفاده رغم محاولة الكهنة والسياسيين والمستفيدين من قمع تلك الرؤى الجمالية المتفردة، التي انتقلت إلى محمود سعيد فرسم لوحته الرائعة "الصلاة" عام 1934 بأقواسها وانحناءاتها وخشوعها وأنوارها وظلالها، لتكون تمهيدا روحيا للوحته الأشهر "المدينة" 1937.
لقد ولد محمود سعيد في الإسكندرية في 8 أبريل 1897 في منطقة بحري بالقرب من مسجد أبي العباس المرسي، وتوفي في فيلته بجناكليس (التي تحولت \إلى مركز متاحف يحمل اسمه) 8 أبريل 1964، بعد أن حصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1960 وتسلمها من الرئيس جمال عبدالناصر. ويُعد من أوائل مؤسسي المدرسة المصرية الحديثة في الفنون التشكيلية. وتأثر تأثيرا كبيرا بالحياة المصرية والشخصية المصرية والفن المصري في كل أعماله، وبدت الإسكندرية في أعماله كأجمل ما تكون، ولوحته "إسكندرية في الليل" 1944 وغيرها تدل على ذلك.
وهو من أكثر الفنانين المصريين الذين كتبت عنهم دراسات عن حياته وأعماله. ومع ذلك لم تحظ "المدينة" بالتقدير العالمي المناسب لها، كما حدث لـ "جورنيكا" بيكاسو. وليس هناك شك أن "جورنيكا" أصبحت اللوحة أو الأيقونة التي تمثل صرخة بوجه الحرب وشهادة حيّة على حجم البؤس والخراب الذي تخلفه الحروب بشكل عام.
وليس معنى ذلك أن محمود سعيد لم يتأثر بالحروب، ولم يفكر فيها، أو لم يرسم عنها، والدليل على ذلك لوحته "الهجرة" التي رسمها عام 1941 وعالج فيها موضوع الحرب وما خلفته من أهوال ومآس ودمار، فكان أكثر تماسكا واختلافا كما يرى الناقد التشكيلي صفوت قاسم، "حيث نرى الرجل والمرأة والطفل ارتدّوا إلى ما كانوا عليه في بيداء الطبيعة الجرداء الموحشة عندما وطأها أدم وحواء لأول مرة، عراة بعد أن جردتهم الحرب من مكتسبات الحضارات على مر العهود". ونرى من خلفهم ألسنة اللهب التي اندلعت جراء القصف والانفجارات المتوالية واستطاعوا أن يهربوا منها بعد أن فقدوا كل شيء حتى ملابسهم فأصبحوا عراة تماما يلتمسون الهجرة إلى مكان أكثر أمنًا ودفئًا وإنسانية، علّهم يجدون ذلك المكان؟
ولكن هل توقفت الحروب منذ ذلك أن رسم بيكاسو "جورنيكا" 1936، لقد اندلعت الحرب العالمية الثانية بعد ذلك، ولم تستطع "جورنيكا" ولا "الهجرة" ولا "مدينة" بلوم ولا غيرها تغيير أفكار قادة الحرب والتشويه والظلام والإرهاب والداعشية، فلنجرب إذن علاج هؤلاء بلوحات مثل "بنات بحري" و"الصلاة"، و"الذكر" و"الدراويش" وغيرها لمحمود سعيد، وغيره، والتي تشيع الجمال والمحبة والسلام والمتعة والهدوء والانسجام.
التعليقات