في الندوات الأدبية يمكنك أن ترى العَجَب، وأن تُقَابِل شخصيات يظل صداها يتردَّد في ذاكرتك طوال حياتك، لا يمكنك أبدًا أن تنساها حتى لو تاب الله عليك وشَفَاك من حضور الندوات الأدبية، وعفاك من سماع أعمال أدبية مليئة بالمرض النفسي.
في الندوات الأدبية تعرَّفتُ على شاعر معروف في الوسط الأدبي بأنه الأديب الهُمَام الذي لا يُشَقّ له غبار، يمتلك اللغة من ناصيتها، ويدافع عنها بالعصا والحذاء، اقتربتُ منه ونشأتْ بيننا صداقة ومحبَّة على الرغم من فارق العمر؛ فقد كنتُ أراه خفيف الروح، وكان يراني تلميذه، ويحاول بقدر الإمكان إبعادي عن مجال الأدب لفَرْط محبَّته لي، ولكثرة ما سبَّبه له الأدب من شَقَاء مادي ومعاناة نفسية لم يستطع الخلاص منها.
يومًا ما كنت أجلس معه في ندوة، فدخلتْ فتاة جميلة، الحَقّ أنها أعجبتني، ولم يكن أحد منا يعرفها، جلستْ وقرأتْ قصيدة تشبه ندب الراقصات على الميت، مكسورة الوزن والروح، صورها منفِّرة ساذجة، ولا يمكن أن تتنبّأ بأنها ستكون شاعرة، أو كاتبة، أو ربع كاتبة في مجتمع الكتاب الحقيقي، يمكنها أن تذهب فورًا وتشتري ماكينة خياطة؛ لتمارس عملًا مفيدًا.
إذا به بعد الندوة يجلس معها، فتضحكْ له ويضحك لها، وتنسجم روحه من طلّتها، وهذا ما لاحظته في الندوة التالية، قرأتْ الجميلة قصيدة مُحْكَمة، متَّزنة القواعد بها صور وخيالات، وكان هو يبتسم وهي تقرأ القصيدة وأحيانًا يُذَكِّرها ببعض الجُمَل التي كانت تنساها أو تخطئ في قراءتها.
نظرتُ له فابتسم لي، وقال لي بعد الندوة: "بالله عليك ألا يستحق هذا الجَمَال الحلو أن أكتب له قصيدة، إن ضحكتها ترد الروح".
ذات يوم احتاج إلى النقود، فأسَّر لصديق له، لكنه نبَّه عليه أنه لا يريد أن يعمل في الأعمال الشاقة، فهو لا يفهم سوى في الشِّعر والكتابة، فأخبره صديقه أنها فُرِجَت وأن الخير قد جاء، قال الصديق: "وجدتها، تعمل مصححًا لدواوين الشعر التي تأتي من الدول المجاورة، يريدون النشر بأموالهم الخاصة".
وبالفعل قَابَل بعض هؤلاء الكتبة وأكل على حسابهم في مطاعم فاخرة لم يدخلها طوال حياته.. يومًا ما جَلَسَ الشاعر ومعه مجموعة من الدواوين، وقام بإصلاحها، كان أحدهم يأتي له بالديوان، ويطلب الشاعر منه الانتظار، فيقوم خلال ساعات معدودة، يصحح الديوان ويلتهم بطة مشويَّة ويأخذ الدولارات، قال لي: "كانت أيام جميلة، كسبتُ كثيرًا، وانتعش بيتي وارتديتُ ملابس جديدة، وعرفت طعم الجمبري، وشربت أفخر أنواع القهوة، وجلست في أفخم المقاهي، وارتديت أحذية من أغلى الماركات".
حين سألتُه هل كانت هذه العملية مُرْهِقة؟ قال لي: "كل ما علىَّ أن أصحِّح الكلام، أحذف وأضيف بعض الفقرات؛ حتى تستقيم وتصبح قصيدة، والقصيدة التي لا أجد منها رجاء أقومُ بتأليفها مَرَّة أخرى، هكذا، أُرِيحُ وأَسْتَريح والكاتب حين يراها يفرح ويشكرني".
وقال لي: "سأحكى لك حكاية، اعتبرها سِرًا، لا يمكنك البوح به لأحد، إنه يمسّ كرامتي وكرامتك وكرامة الأدباء" انتبهتُ، فقد بدا على وجهه الاحمرار الشديد، ورأيتُ عرقًا ينتفخ في رقبته.
قال: "حصلتُ على شهادة تقدير من جماعة الأدب وفرحتُ بها جدًا، فهذا تقدير كبير، وما إن دخلتُ البيت وجلستُ أشرب الشاي مع أسرتي، حتى أخبرتُ زوجتي بأن هذه الشهادة تُمَثِّل بالنسبة لي إضافة في مسيرتي الأدبية، أخذتْ زوجتي مِنِّي الشهادة وفتحتها ونظرتْ لإسمي شذرًا وقالت: "أليس من المفروض أن يكون داخل هذه الشهادة نقودًا؟" قلت: "هذا تقدير أدبي ومعنوي".
ابتسمتْ اللئيمة وأخذتْ الشهادة وقَبَّلتها وأعطتها لابنتي وقالت لها: "اذهبي بها للجزار"، استغربتُ، واستغربتْ البنت، قالت وهى تضحك بسخرية: "اطلبي من الجزار بدل هذه الشهادة المعنوية كيلو لحم لغذاء اليوم"، وتركتنا ودخلتْ لتنام مستريحة البال.
ظللتُ أنظرُ لابنتي وتنظر لي وأنا في غيظ فظيع ودمي داخل عروقي يطش، وإذا بابنتي تبتسم وتضحك، وظللتُ أنا وهي نتضاحك على هذه المرأة التي لا تُقَدِّر شهادة تقدير معنوي".
يومًا ما وأنا أقرأ مجلة عربية وجدتُ قصة مكتوبة لفتاة اسمها يشبه اسمه، أخذتُ المجلة وذهبتُ للندوة، وحين رأى المجلة قال بهمس: "أريدك في الخارج" قلت ونحن بمفردنا: "يوجد اسم يشبه اسمك" قال: "هي ابنتي، والقصة المنشورة قصتها" ابتسمتُ في مكر، فأردف: "القصة أنا كتبتها، والمجلة تنشر لي وأنا أريد نقود النشر، لقد كتبتُ القصة ونشرتها باسم ابنتي، من أجل النقود، أنت تعلم زوجتي" قلت: "لكنك تُهدر جهدك الشعري.
قال: "سأقول لك شيئًا آخر حتى إذا علمته فيما بعد لا تعاتبني" نظرتُ له بانتباه، فقال: "أنا تقدمتُ لمسابقة باسم ابنتي، وأخبروني أنها فازت" قلت: "أنت تصنع من اسم ابنتك كاتبة قصة" قال: "هذا لفترة؛ حتى تنقضي أزمتي المالية، فأنا لن أنسى يوم عدت إلى البيت ووجدت زوجتي باعت بعض الكتب التي تخصني واشترت أشياء للبيت، والحَقّ أقول لك لم أستطع أن أفعل لها شيئًا، وأخذتُ بقية الكتب المتبقية ووضعتها في صندوق فوق سطح المنزل خوفًا من أن تبيعها هي الأخرى، ومن آن لأخر أحرص على النشر في المجلات العربية لأحصل على بعض الأموال لزوجتي".
قلت له: "هل حقيقي ما يزعمه أحدهم من أنك قمتَ بتأليف ديوان كامل لشاعر دفع لك بعض الدولارات؟".
قال وهو يبتسم: "يا أخي لم يكن شعرًا، كان نظمًا، فقط أضعُ الوزن وأكتبُ عليه أي كلام، وإذا بهذا المتشاعر يعجبه ما فعلت فدفع فيه مبلغًا محترمًا، في النهاية أنا الرابح. هو أخذ زبالة أفكاري، وأنا أخذتُ دولاراته" وقهقه بشدة وهو يردد: "يا ليت هذا الشاعر يطلب ديوانًا آخر، أنا أحتاج للدولارات".
التعليقات