ترام رمل الإسكندرية لا يَعْدِلها سوى كوب جيلاتي بطعم المانجو والحليب تأكله على الكورنيش فوق كوبري ستانلي، خصوصًا لو جلستَ في ترام الرمل بجانب الشّبّاك على المقعد الجلدي الأحمر المريح، وإذا لم يكن يجلس أمامك أحد ستلاحظ أن عاشقًا قد رسم على جلد المقعد قلبًا يخترقه سهم وقطرات دم تقطر من القلب وإن اسمه (وليد) وأن حبيبته (س) وربما تجد رقم تليفون مكتوب في أعلى المقعد وجانبه (عادل النجار، باب وشِبَّاك).
تبدأ في تلقى متعة العمارات وتشكيلاتها الرائعة، مع تحرك الترام من محطة الرمل، تأخذك التفاصيل المنحوتة بدقة في واجهة المباني، وإذا كنت من السعداء سترى بقايا تماثيل صغيرة على الجدران، ولهذا يجب أن تجلس في الجانب الأيسر من الترام، في منتصف العربات تمامًا، كي تشعر بالاتزان المستقر.
حين لفحتني طراوة النَّدى ووجدت أن رأسي قد انتعش من الهواء الهارب من الشوارع الجانبية، ساعتها لم أكن أنتبه أن المقاعد حولي قد امتلأت بالركاب، وأن أحدهم يتحدَّث لي بدون مقدّمات وبدون سابق معرفة، فقط لأنه وجد نفسه يجلس في مواجهتي فشعر بالأُلْفَة قال: "تصور يا أستاذ أيام زمان كان الخير كثير جدًا، على الرغم من أني لم أكن أجد سوى حذاء وحيد أذهب به للمدرسة، ومع ذلك كنا في حالة شَبَع، كانت نفوسنا راضية، كنا في حالة انسجام مع الأوضاع، بمناسبة هذا الحذاء الوحيد، تصور يا أستاذ أني وجدته يومًا ممزَّقًا من كل مكان كشبكة الصياد، فلم أعرف ماذا أفعل، لم أجد أمامي غير شبشب أختي".
ساعتها ظهر على وجهى الاستغراب، فضحك الرجل: "لا تستغرب يا أستاذ، كانت أيام جميلة، المُهِم، شبشب أختي كان به وردة بنفسجية ظاهرة جدًا أمام من ينظر للشبشب" قلت: "أظن أن زملاءك لم يتركوك، أعني ضحكوا عليك" وضحكت، فبالفعل منظر طفل يرتدي شبشب بوردة بنفسجية ظاهرة منظر مضحك، يدعو للسخرية اللذيذة، قال: "يا أستاذ، أنا لا أترك أحدًا يضحك علىَّ، أو يسخر منّي أو من شبشب أختي، لقد وجدتُ الحل بذكائي الخارق، كنت أخلع الوردة وأضعها في جيبي وأذهب للمدرسة بدون وردة، حين أعود للبيت أضعها مرة أخرى فترتديه أختي، هذا حل عبقري".
لأن المقاعد متقابلة في صورة حميمية فتجعلك تشعر أنك تجلس في صالة منزل كريم وأن هناك علاقة أسريَّة بين الركاب، حكى أحدهم عن النظافة وقال: "ذات مَرَّة ضربت المجاري الشارع وصار الشارع يغطيه ماء المجاري بحيث لا يستطيع أن يمر منه أحد، ظل هذا الوضع لأيام حتى كدت أموت من الرائحة يا أستاذ، لكن حدث ما جعلني أصبر فقد رأيت "حسين بيكا" قد أحضر مقعدًا ومنضدة صغيرة وجلس على المقعد أمام المجاري، وفنجان القهوة على المنضدة، يدخن الشيشة ويشرب القهوة بمزاج غريب، كأنه طائر فوق السحاب، كان يجلس أمام المجاري تبدو عليه علامات الرضا الحقيقية وكأنه يجلس عند شاطئ ستانلي، ينظر للمجاري الطافحة وكأنه ينظر لموج البحر الأزرق.
قلت إن النظافة إحساس، فاستغربوا، فقال الذي أمامي: "النظيف، نظيف من يومه، ما علاقة الإحساس بالنظافة، الوساخة وساخة يا أستاذ".
قلت أنا أحب المشي في شوارع الاسكندرية، مرة لاحظت أن شابًا وفتاة يسيران بطريقة تدل أنهما في حالة عشق، يمسكها من يدها ويداعبها ويضغط عليها بحرارة فقال أحدهم بهمس: "معنا حريم في الترام يا أستاذ" فقلت: "المهم، لاحظت أن الشاب والفتاة قد وقفا عند صندوق من صناديق الزبالة، وحين اقتربتُ منهما وجدتُ الشاب يضع يده مستريحًا على الصندوق كأنه يستند إلى شجرة، والفتاة بجانبه، وما يزال يحدثها في حالة حب وغرام، ضحك أحدهم وقال: "حب زبالة".
قلت: "تصور، لقد ذهبتُ وعدتُ بعد ما يقرب من ساعة فوجدتهما على الحالة نفسها من الانسجام، ومن الشوق المتأجّج، إنهما لم يعودا يشعران بالزبالة، التي حولهما".
قال أحدهم: "الحب يُلْهِى عن رائحة الزبالة" فقلت: لا، هذا عدم إحساس، لقد تكيَّفا مع الزبالة حتى أنهما لم يعودا يشمّان الروائح الكريهة، لقد صارت جزءا منهما وصارا جزءا منها.
قالت امرأة كانت تجلس على مقعد في الجهة الأخرى: "الحكاية ليست حكاية إحساس، وليست حكاية أن الحب غيبهم عمَّا حولهما" استغربنا جميعًا من تدخلها المفاجئ، لكنها كانت تتكلَّم بجديَّة صارمة ورغبة حقيقية في إبداء رأيها.
استمرت المرأة تقول: "الحكاية أن الشاب أخذ الفتاة عند صندوق الزبالة؛ حتى إذا غضب منها وفعلت ما لا يرضيه سيتحرك بسرعة ويرفعها ويلقيها داخل صندوق الزبالة".
انفجرنا في ضحك متواصل ونزل ركاب وجاء آخرون وأنا ما زلت أجلس على الكرسي الأحمر المريح في انتظار لحظة انتعاش طرية تأتيني من الشوارع الجانبية، بعيدًا عن رائحة المجاري وصناديق الزبالة.
التعليقات