من كآبه الشئ الظاهرة أن يفتقر إلى المصداقية فغالبًا نحن من يصنعها من العدم، فمثلا حين تصغي إلى فلان غالبا ما تجده كثير الحديث قليل الأفعال واسع الخيال، على الأرجح مدعي ثقافة وإطلاع وأغلب الظن ستجده متحدث لبق فقط حين الحديث عن الآخرين، كأن "المندوب السامي البريطانى" عاد من جديد والويل كل الويل لمن خالفه و واجهه بحقيقة القول المنسوب، إننا حقا أمام جريمة أخلاقية بشعة على الأغلب تطيح بكل من مارسها نحو القاع، ذلك القاع المظلم ذو السواد الحالك ولا سبيل منه للنجاة، فكيف ستنجو إن إنجرفتَ وإبتلعتك غيابات الجب؟ الحل بسيط جدا يا صديقى فقط إبتلع لعابك وثبت لسانك فى ثغرك ثم دع الخلق للخالق مثلما فعل صديقنا "عثمان" لكنه فعل بعد فوات الأوان فمن السيئ أن يصر الإنسان لكشف لغر أو حقيقة أخيه الإنسان لمجرد حب الإستطلاع المميت و الأسوأ أن يكون المغزى تعريه ما ينبغي أن يظل مخفي دون ذرة تبرير، تلك هى مساوئ الحارة الشعبية رغم دفئها وصدق عذوبتها إلا أنك قد تجد نفسك أحيانا متورط أمام الجميع وكل ما عليك هو المثول بذلك القفص الحديدى أمام قاضٍ من الأغرب ألآ يتسم بالعدل و ما عليك إلا المثابرة لإثبات ما لا يمكن إثباته سوى بعدالة السماء...
نعود لتلك الحارة ذات الطابع الخاص، إضبط ساعتك على الواحدة بعد منتصف الليل يوميًا فحين مرور ذلك الطيف العابر جانبك ستتأكد أنها الواحدة صباحا ، تمشِ فى خيلاء خفيفة كنسيمِ عبير تباشير الصباح، "صاحبة الوشاح الاسود" قد تظن أنها من الجان و قد تشعر أنها أتت من العالم الآخر فوجهها يكسوه الوشاح رغم ثقوب بسيطة تسمح لدخول الهواء لها حتى تتطاير جوانب الوشاح فتضفى غموضا أكثر يجعلك تقسم أنها من عالم الجان فتنظر من بعيد أو تنصرف... حال غريب من المحال السكوت عنه! من هى "صاحبة الوشاح الاسود" التى تأتى فى عتمة الليل كالطيف الطائر و تدخل بيت لا يقطنه سوى مسن و زوجته؟!!
إن "عثمان" أحد رجال الحارة ظل يرقب ويترقب بل و يتربص إلى أن وصل به الحال و إستوعب أن "صاحبة الوشاح" هى ذاتها إبنه "المسن و زوجته"، لكن لماذا ترتدى ثوبًا يخفى هويتها وكيف تجرؤ على العودة بمنتصف الليل يوميًا ألا يوجد بالحارة رجال تتسم بالنخوة؟ أليس هناك من يغار على بنات حارته؟ لم يهنأ له بال حتى إكتشاف حقيقتها المخجلة وجمع كل كبار رجال الحارة لفضح سرها بل و طردها من الحارة إن أمكن..
حشد كبير يطرق باب المسن إنه رجل صالح لم يسمع له صوت قط طيلة أعوام سابقة و يدعى الشيخ وهدان...
-عثمان: إنصت جيدا أيها الشيخ الكبير نحن رجال الحارة المتمتعون بالنخوة و الرجولة، لن نسمح أبدا بمثل تلك المهزلة أن تستمر.
-الشيخ وهدان: وماذا حدث لكل ذلك يا عثمان؟
-عثمان: ابنتك؟
- الشيخ وهدان: و ماذا بها ابنتى؟
-عثمان: تعمل بملهى ليلى ثم تعود بمنتصف الليل و كأن شيئا لم يكن.
-الشيخ وهدان: ابنتى؟! أتقصد ابنتى أنا؟
- عثمان: أجل ابنتك... ابنتك التى صورها ببدلة الرقص تملأ المكان هناك.
- الشيخ وهدان"بصدمة": لكن ابنتى تعمل ممرضة و تذهب صباحًا لعملها وتعود فى المساء، لا تريد أن يراها أحد و يعلم أنها تتولى أمور مصروف البيت حتى لا ينال أخاها اللوم وكثرة الحديث و الإنتقاد بعد أن تركنا ولا نعلم عنه شئ،،،، ابنتى؟!! واضح أنك تتحدث عن شخص أخر.
-عثمان : إذن إن كنت أنا بكاذب و مدعى إفتراءات فهناك سنرى جميعا الحقيقة أمام أعيننا...
كانت الثقة التى يتحدث بها عثمان تفوق الواقع والخيال، إن ذلك الملهى المقصود يقع بقرابة الحارة كأن شارع من شوارعها أضاءته أعمدة الملهى و أنارته كبريق فى السحاب.
وهناك ما إن وصلوا حتى لاحت الصور المثيرة المترامية على أطراف ابواب الملهى إنها حقا تخدش حياء كل من رأها، إمراة جميلة شبه عارية ولكن الصدمة هنا كانت أقوى مما قيل عما سبق، هى ليست ابنه الشيخ وهدان لكنها تشبهها كثيرًا لكن ليست هى ولا حتى تمت لها بأية صلة قرابة بل والأدهى وسط ذهول الحاضرين يدخل عثمان للسؤال عن صاحبة الصورة ليجد هناك فتاة متحررة من معظم ملابسها وصوت ضحكاتها يعلو بالمكان تمسك بإصبعيها لفافة تبغ و زفيرها يخرج بكومة دخان يحبس الأنفاس، من الظاهر أنهاحديثة العهد بالعمل يتضح ذلك من صغر سنها لكن!!!...
عثمان يخطو نحو الفتاة من ظهرها بتركيز شديد كأنه يعلمها، يقترب أكثر فأكثر و يدقق أكثر حتى أن إلتفتت لتظهر عن وجهها فتتلقى منه صفعة على مرأى و مسمع الحاضرين لم تكن بالحسبان!!..
- الفتاة فى ذهول وخوف شديد : أبى...
- عثمان قابضا بيده على قلبه: لا تقوليها ثانية...
وتوارى فى الزحام.....
التعليقات