أنا إنسان عصامي منذ صغري، اعتمدت علي نفسي وتربيت علي الاستقامة والرضا بما قسمه لي الله، وبمجرد ما توافر لدي الحد الأدني من الإمكانيات سارعت بالزواج من الابنة الصغري لخالتي وبدأت حياتي هادئة كما تمنيتها، وقد رزقني الله بالابن الأول الذي فرحت به ثم مَنَّ الله علي بولدين آخرين، وقد سافرت إلي إحدي الدول الخليجية لكي أحقق لهم مستقبلا افضل، وبالفعل لبيت طلبات ومصاريف أبنائي وزوجتي وتعليمهم وبنيت لهم بيتا من أربعة أدوار، وعندما ضاقت بي الظروف عدت فلم أجد إلا النفور والتمرد والنكران والطرد من البيت الذي بنيته من دمي وعرقي في غربة استمرت 20 عاما، ذقت فيها الأمرين ! فماذا جنيت لكي ألاقي كل هذا العقاب؟!وأين أذهب وأنا في أرذل العمر؟
بدأت قصتي خلال سنوات زواجي الأولي، حيث كنت أعمل «فني ميكانيكي» بإحدي شركات المقاولات الكبيرة. وفي أحد الأيام قالت لي زوجتي: الناس تسافر للخارج وتبني بيوتا لأبنائها وتؤمن مستقبلهم، فلماذا لا تفعل مثلهم لتتحسن أحوالنا (ونقب علي وش الدنيا)؟!، فاستقلت من وظيفتي وسافرت إلي إحدي الدول الخليجية عام 1985 وبمجرد ان استقرت أوضاعي طلبت من زوج اختي ان يختار لي قطعة ارض لبناء بيت جديد يجمعني مع أولادي، وارسلت له المبالغ المطلوبة علي دفعات، حيث كنت لا انفق من راتبي الا القدر القليل لتلبية احتياجاتي الأساسية حتي اتمكن من توفير مصاريف أسرتي ونفقات بناء البيت. وبعد فترة عز علي أن اترك أبنائي الصغار بعيدا عني وخشيت أن تأخذهم دروب الحياة في مسالك سيئة، لذلك اصطحبت أبنائي وزوجتي معي، وكلما يتوافر لي مبلغ أرسله لزوج أختي ليكمل بناء البيت. وقد انجبت بنتين في الغربة وعاش معي جميع ابنائي ولكن في عام 1997 تدهورت الأحوال الاقتصادية وتم تخفيض راتبي ثم حدثت خصخصة فقدت علي أثرها وظيفتي، لذا اضطررت إلي إعادة أبنائي إلي مصر بعد ان قضوا معي 10 سنوات .
وبعد بحث طويل وفقت في وظيفة جديدة براتب أقل، والحقيقة كنت محملا بمسئوليات اجتماعية إضافية كوني أكبر إخوتي، فكنت أساعد ماديا والدي المريض والمتقاعد وأخي المصاب بالسرطان. واضطررت لترك الشقة التي كنت اسكن فيها والانتقال للإقامة في غرفة مع آخرين لكي اوفر مصاريف اولادي بمصر واتمم بناء البيت. ولكن الأمور لم تسر كما تمنيت ..فحتي هذا الراتب القليل فقدته بسبب تعثر بالشركة التي اعمل بها. حاولت البحث عن عمل آخر وقضيت أياما تعتبر أصعب أيام في حياتي. وبعد مرور عدة اشهر دون عمل لم يكن أمامي خيار آخر سوي العودة إلي وطني فعدت عام 2005 وحمدت الله اني تمكنت من إتمام بناء البيت المكون من اربعة ادوار، حيث يسكن اولادي الثلاثة كل واحد في دور واسكن أنا وزوجتي في الدور الأرضي.
وكنت أتوقع ان تفرح أسرتي بعودتي واستقراري معها بعد طول غياب ولكن كانت الصدمة الكبري في زوجتي، حيث وجدتها تغيرت تماما وأصبحت تهمل البيت ولا تهتم بي وصار كل ما يعنيها هو جمع المال وتتبع أخبار الآخرين. شكوتها لأخيها واعترفت أمامه بالإهمال، ولكن حالها لم تتغير، شعرت بضيق شديد واحباط قاتل وفكرت في السفر مرة أخري للخارج، وبعد اشهر قليلة تمكنت من العثور علي فرصة عمل ولكني اكتشفت انها عملية نصب، حيث لا عقد محدد ولا راتب واضح فأغلقت باب السفر، وعملت في شركة مقاولات بمصر ولكن لم استمر طويلا بعد ان اكتشفت سرقات ولعب في الفواتير، فرفضت أن أكون شريكا في الحرام. وأصبحت اقضي معظم وقتي في البيت، حيث لا عمل، وقلت لنفسي: ربما بعد هذا المشوار والكفاح الطويل حان وقت الراحة، بخاصة وان عمري تجاوز الستين عاما ولكن علي العكس زادت معاناتي، حيث لم ينصلح حال زوجتي التي صارت مسيطرة تماما علي الأولاد وكل مفاتيح الأدوار الثلاثة في يدها، والأكثر من ذلك أنها شوهت صورتي لدي ابنائي بأكاذيب من قبيل أن لدي أموالا اخفيها عنهم، لتنال عطفهم واهتمامهم، حيث يسمعون كلامها وينفذونه حرفيا، أما أنا فلا يعيرونني أي اهتمام، ويوما بعد يوم تزايدت قسوتها فلم تعد تهتم بطعامي ولا شئوني وتسهر طوال الليل وتستيقظ بعد الظهر. ألقي السلام عليها فلا ترد. وأصبحت لا أجد منها إلا النفور والتنمر، لدرجة انها قالت لي «مش عايزاك في البيت ..لو عاوز تتجوز تفضل بعيدا عن بيتي!!»، صبرت عليها خاصة ان هذا التمرد تزامن مع زواج ابني الأكبر ثم بنتي الكبري، ولكن صبري لم يغير في الامر شيئا بل زادت حدتها وأصبحت تعاقب الجميع بعدم الطبخ وترك ملابسنا بدون غسيل علاوة علي السخرية مني ومحاولة استفزازي بل تطاولت علي وقالت لي (ارحل عن بيتي!) ..البيت الذي هو ثمرة غربتي عشرين عاما أصبح هكذا بيتها بل تطالبني بالرحيل منه!!.. لا استطيع التعبير عن حجم المرارة التي شعرت بها حينما تفوهت بذلك في طلقة واحدة أصابت قلبي المثقل أصلا بالألم ، لم أجد نفسي قادرا حتي علي الرد وتحاملت علي نفسي وحملت شنطتي وخرجت إلي بيت أختي خارج المدينة، فاستقبلتني بحفاوة وهدأت من روعي وقضيت معها أياما أحاول استيعاب الصدمة، ولكنها نصحتني بأن اعود الي بيتي وأبقي فيه.
وبعد عودتي شعرت لأول مرة بتقدم سني التي أصبحت 67 سنة: «لا أقوي علي عمل شاق ولا مرتاح في البيت» ، وفي هذه الأثناء تقدم عريس لبنتي الصغيرة ولكن عندما لاحظ والداه ان ابني لم يحضرا الخطوبة،انسحبوا. بعدها قال لي ابني الأكبر : تبقي معزز مكرم في البيت بشرط أن يكون جهاز بنتك عليك، قلت موافق أدفع 1000 جنيه قسطا شهريا ويتبقي لي 500 جنيه من معاشي اشحن، موبايلي واتناول وجبة واحدة يوميا وأما علاجي من خلال التأمين الصحي فهو غير كاف واضطر لأن أشتريه بمساعدة بعض الأصدقاء. وهكذا أصبحت وانا في أرذل العمر أعيش في بيتي وحيدا منبوذا ومضطرا للبحث عن عمل خفيف لكي أتقوت منه!! طوال اليوم تتضارب الافكار في رأسي يمينا ويسارا وألوم نفسي ان انفقت كل ما لدي علي أبنائي ومسكنهم ولم افكر حتي في تحصيل ايجار منهم يعينني علي أعباء الحياة، فهل كنت مخطئا حينما فعلت ذلك ؟ وماذا افعل وانا بحاجة لونيس يعتني بي؟.. تارة افكر في الزواج من سيدة مطلقة او أرملة لديها دخل ثابت وسكن يؤويني، وتارة أخري أفكر في البحث عن عمل خفيف حتي لا أكون عالة علي أحد، فهل أخطأت في اختياراتي؟! وبماذا تنصحني؟
لكاتب هذه الرسالة أقول:
أعبر بداية عن تعطفي الشديد معك يا سيدي المكافح الشريف. وللأسف هذه المأساة ما هي الا نموذج لمآس متكررة لدي الذين ضحوا بحياتهم من أجل أبنائهم، خاصة الذين اضطروا للعمل بالخارج وقضوا زهرة شبابهم هناك يراودهم الحلم بأنهم سوف يؤمنون مستقبل أبنائهم وظلوا سنوات طويلة يقتطعون من قوتهم وصحتهم وعمرهم لهذا الهدف ثم يتفاجأون بالتنكر لهم من أولئك الذين ضحوا لأجلهم!
وردي في نقطتين، الأولي تتعلق بك: يا سيدي الحياة لا تتطلب منا ان نضحي حتي آخر قطرة من دمائنا. ولكن لا تتألم علي ما مضي لأنك أولا لم تخطئ وثانيا لن تستطيع إعادة الماضي. اتفهم جيدا طبيعة المأزق الذي تمر به وتلك الأسئلة التي تنتاب الإنسان في نهاية حياته، حينما يفاجأ بعكس ما خطط له، فهذه المسألة كانت ولا تزال محور تأمل وبحث الكثير من الفلاسفة والكتاب و ربما يلخص كل ذلك الأديب الإنجليزي الشهير د. هـ. لورانس حينما كتب:«ليت للإنسان حياتين..الأولي يرتكب فيها الأخطاء والحماقات، والثانية يتعلم فيها من أخطائه وتجاربه!».
لكن الحقيقة أننا لا نعيش في الدنيا سوي حياة واحد والكياسة لا تنحصر فقط في أن نعرف كيف نبدأ وإنما علينا أن نعرف كيف ننتهي؟
يا سيدي أنت لم تخطئ عندما قررت بناء بيت لك ولأبنائك ولكن علينا ان نعلم أن لكل شيء حدودا، حتي التضحية يجب أن يكون هدفها واضحا وقدرها معلوما حتي لا نكون مثل النهر الذي فاض بعد ما امتلأ فأغرق كل من حوله، كما ان تضحيتنا من أجل انفسنا أولي، وليس علينا حرج فيما لا نستطيعه، فلا يكلف الله نفسا الا وسعها، خاصة انك بالفعل قمت بما هو واجب عليك واكثر، واي طلب منك حاليا في نهاية حياتك هو ظلم لك. فمن حقك ان تعيش مكرما في هذه الفترة الحرجة من عمرك.
نصيحتي أن تفعل ما يريحك ولابأس ان تبحث عن مصدر رزق، وبالطبع يمكنك ان تجد حلا قانونيا ومن حقك أخذ ايجار السكن من أبنائك اذا كانوا قادرين.
أما مسألة الزوج من أخري، فلا شك ان ذلك من حقك ولكن عليك أن تستقر نفسيا وتدبر أمور حياتك ثم بعد ذلك تفكر في شريك آخر يشاطرك هذه الحياة، فنحن علينا ان نكمل ما ينقصنا أولا ، لأن الزواج لا يكمل الناقص لدينا. قلت انك تريد سيدة عمرها مناسب ولديها دخل وسكن ولكن عليك أن تسأل نفسك: كل ذلك مقابل ماذا؟ هل فقط لكي تكون متزوجة، ليس هذا عدلا، فهذه السيدة لها الحق في إنجاب أولاد، وقد يكون لديها أبناء بالفعل، فتضيف الي نفسك مشاكل أخري قبل ان تحل مشكلتك الأساسية. اعتقد أن اولوياتك الآن هي المكان المريح ومصدر دخل لتنفق علي نفسك، نعم العلاقات الإنسانية هدفها الراحة، ولكن إذا كنت غير مستقر فلا تدخل نفسك في علاقة جديدة إلا بعدما تعالج الآثار الخاصة بالعلاقة الأولي.
النقطة الثانية تتعلق بالزوجة التي لم اسمع منها ولكني عايشت نماذج من هذا النوع والتقيت شخصيات لديهم تجارب حياتية مشابهة، وعلمت منهم قدر الألم الذي ذاقه الأب العائد من غربته بالخارج ليبدأ غربة جديدة في بيته. وأقول للزوجة: إن المسئولية الكبري في هذه المأساة تقع عليك، لأنك أنت يا سيدتي التي دفعت زوجك للسفر أصلا وقد اصطحبك واولادك معه، وعندما ضاقت الظروف لم يكن أمامه إلا ان تعودوا ليكمل هو المسيرة بمفرده، وعندما أغلقت في وجهه الأبواب وعاد الي بيته، تنكرت له، وتنصلت من واجباتك نحوه ، يا سيدتي ما ارتكبته يعتبر خيانة معنوية متعددة الأبعاد، ولا تقل في جرمها عن الخيانة الزوجية، فهي أولا خيانة للعهد، حيث عاهدت زوجك ضمنيا علي تربية أبنائه علي بر الوالدين ولكنك اقتنصت فرصة انشغاله بتدبير حياة أولادكم ومستقبلهم والبناء لهم، لتسيطري عليهم وتوغري صدرهم ضد والدهم المكافح المضحي، وعندما عاد لم يجد منهم سوي التجاهل والعقوق. وثانيا خيانة لعقد الزوجية الذي يقوم علي المودة والرحمة، ولكنك قابلتها بالنفور والتنمر والتقاعس عن القيام بواجباتك تجاه زوجك. وثالثا خيانة للأمانة حيث استأمنك علي بيته فسيطرت عليه واستأثرت بمفاتيح شققه ودفعته إلي الرحيل عنه. وهذا ظلم بل ظلمات وحرام شرعا. أتمني ان تعودي إلي رشدك وتتوبي عن ذنبك وتعيدي لم شمل أسرتك فالزوجة هي رمانة الميزان في البيت ويمكنها بحكمتها حماية سفينة الأسرة في وجه الأعاصير، فما بالنا اذا كانت هي الصانعة لهذه الأعاصير!
التعليقات