على إسماعيل عنوان مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية فى افتتاح دورته (31)، إنه عام (المئوية) لأحد أهم عباقرة الموسيقى العربية، وهكذا أهدى لنا المهرجان احتفالية منحتنا مساحة من الوهج الإبداعى والتعدد النغمى الذى لايزال يسكننا، بتلك اللمحات التى أضافها على إسماعيل الموسيقار العبقرى الاستثنائى فى التلحين والتوزيع وإصراره أن تعبِّر موسيقاه عن فكره وإحساسه بعيدا عن محاولة القولبة التى كثيرا ما قيدت إبداعنا العربى فى كل المجالات، على إسماعيل ظلت لديه رغبة دائمة وعارمة للخروج بعيدا والتحليق لأعلى متجاوزا السماء السابعة.
على إسماعيل حقق فى مجال توزيع أغانى الفيلم الغنائى، آفاقا غير مسبوقة، عما كانت عليه قبل على إسماعيل، صارت اللقطة جزءا من الحالة التى يصدرها الشريط السينمائى إلى وجدان المتفرج، يستلهم روح النص وكأنك تشاهد الموسيقى بأذنيك، راجع مثلا الموسيقى التصويرية لأفلام مثل (الأيدى الناعمة) و(إضراب الشحاتين) و(لا تكذبى) و(الأرض).
ظل مبدعا حتى اللحظة الأخيرة، ولم يقهره حتى الموت، فارق الحياة وهو يضع الموسيقى لإحدى المسرحيات، قبلها بسنوات قليلة كان يقود أوركسترا فرقة (رضا)، ودعت اقرب الناس إليه (أمه) الحياة، وعرف الخبر بين الفصول، وطلب منه قائد الفرقة محمود رضا أن يعتذر بالنيابة عنه للجمهور ولا يكمل الفصل الثالث، إلا أنه أصر أن يقود الأوركسترا وقلبه ينزف دموعا على (ست الحبايب).
الفن بالنسبة له إصرار وأيضا موقف، ولهذا عندما وجد أن عبدالحليم حافظ أصابه الغرور منذ نهاية الستينيات، وكان يقف على خشبة المسرح يشاركه فى قيادة الفرقة الموسيقية، حذره مرة ساخرا (خلاص نتبادل المواقع أغنى أنا وتقود أنت الفرقة)، واعتذر له حليم إلا أنه سرعان (ما عادت ريما)، فرفض على إسماعيل، فى سنواته الأخيرة، أن يمسك عصا المايسترو فى وجود حليم، وبعد رحيله بكاه حليم ذاكرا أفضاله، أغلب أغانيه التى رشقت القلب من توزيعه، كما أنه منحه فى البداية لحنا حقق له شهرة عريضة (يا مغرمين يا عاشقين).
الكثير من اللمحات الإبداعية تسكن الذاكرة، وتضعه فى البؤرة، مثلا فى فيلم (يوم من عمرى)، راجع (ضحك ولعب وجد وحب) تلحين منير مراد ستجد كيف يستغل حتى أقدام إيقاع الحصان والمزمار كجزء رئيسى للتعبير بالصوت والصورة، وفى أغنية (خايف مرة أحب) تلحين بليغ حمدى، (كلاكس) السيارة الصغيرة التى يستقلها عبدالحليم مع عبدالسلام النابلسى أصبح له دور البطولة، إنه لا يوزع فقط النغمة الموسيقية، لكن عينه أساسا على اللقطة المعبرة، وبالطبع وصل للقمة فى أغانى فيلم (غرام فى الكرنك) لأنه أيضا الملحن، كل شىء لديه محسوب بدقة الرقصة والنغمة واللقطة.
لدى الكثير الذى أحكيه سوف أقدم لكم حكايات، من الممكن أن ترسم لنا (بورتريه) للإنسان على إسماعيل، الحكاية الأولى مصدرى فيها الموسيقار كمال الطويل، كان الطويل قد لحن لعبدالحليم حافظ قصيدة (لقاء) شعر صلاح عبدالصبور، وتم اعتماده فى الإذاعة المصرية، لكنها لم تحقق النجاح الجماهيرى الذى تمناه للطويل لصديقه، بل تعرض الطويل لسخرية من المطرب الكبير محمد عبدالمطلب، حيث قال للطويل: (هو ده اللى انت قلت ح يقعدنا فى بيوتنا).
قدم عبدالحليم بعدها من تلحين محمد الموجى (صافينى مرة)، وبالفعل حققت قدرا كبيرا من النجاح، وشعر الطويل بأن عليه أن يمنح لصديقه أغنية تتجاوز (صافينى مرة)، كان بصحبة عبدالحليم فى شاطئ الإسكندرية، وشاهد الطويل فتاة خطفت قلبه فقال لها (على قد الشوق اللى فى عيونى/ يا جميل سلم) من حسن الحظ أن مثل هذه المداعبات لم يكن يجرمها القانون، ولم نكن نصنفها تحرشا، ثم لم تظهر الحسناء مجددا على الشاطئ، إلا أن عبدالحليم لم ينس سحر كلمة (على أد الشوق)، وتم ترشيح الشاعر محمد على أحمد لاستكمالها، وأنهى الطويل اللحن، وعهد به إلى على إسماعيل للتوزيع، وقرر الثلاثة حليم والطويل وعلى إسماعيل عرض اللحن على الموسيقار محمد فوزى، الذى قال لهم أنا عندى اليوم لقاء مع محمد عبدالوهاب وسوف تقدمون لنا جميعا الأغنية فى تلك الأمسية.
استمع عبدالوهاب إلى الأغنية مسجلة، ولم يبد حماسا ووقف على الحياد مكتفيا بتعبير (حلو مش بطال)، وكانت هذه الجملة كفيلة بأن تحبط الطويل وإسماعيل، وبعد أن غادرا السهرة محبطين، قال الطويل اللحن به عيوب وسوف أعيد التفكير، وقال على إسماعيل اللحن ممتاز أنا أتحمل مسؤولية الإخفاق وسوف أعيد التوزيع، بينما فوزى قال لهما اللحن والتوزيع وصلا للقمة، قدموه كما هو، وحلق عبدالحليم بنجاح جماهيرى طاغ مع (على أد الشوق)، والتقطته السينما، وقدمه فى فيلم (لحن الوفاء) والذى حمل فى البداية اسم (على أد الشوق)، وأشار الجميع إلى صوت عبدالحليم وموسيقى الطويل ولم يذكر أحد، حتى الآن، اسم الموزع على إسماعيل، والغريب أنه لم يعلن أبدا طوال حياته، أنه الضلع الرابع فى (على أد الشوق) مع الشاعر محمد على أحمد والموسيقار كمال الطويل والمطرب عبدالحليم، لم يكن أبدا مولعا بالشهرة.
الحكاية الثانية مصدرى فيها الفنانة شجون على إسماعيل، ابنة الموسيقار الكبير، حيث قالت لى إنها دخلت وهى طفلة حجرة المكتب فوجدته يبكى وهو يستمع إلى أغنية عبدالحليم (جبار)، اعتقدت أنها من توزيعه، وسألته عن سر دموعه فقال لها: (شايفه الأستاذ أندريا رايدر عامل إيه)، كان يبكى من فرط إبداع أستاذه، كان رايدر كثيرا ما يمتدحه قائلا: (إنه التلميذ الذى تفوق على أستاذه). الحكاية الثالثة عن أستاذه الثانى فؤاد الظاهرى، الذى وضع موسيقى فيلم (فجر الإسلام)، ولم يتنبهوا إلى خانة الديانة، إلا بعد تنفيذ الفيلم فهو من الأرمن المسيحيين، ورشحوا على إسماعيل، قال لهم بعد أن استمع لما أنجره أستاذه (مستحيل ح أقدم أحلى من كده فهو ينضح بالنفحات الإسلامية).
الحكاية الرابعة روتها لى الشاعرة الكبيرة نبيلة قنديل، أرملة على إسماعيل، التى كتبت عشرات الأغانى الناجحة أشهرها (أم البطل) لشريفة فاضل، قالت لى نبيلة إن موسيقارا كبيرا معروفا عنه تعدد الزوجات عرض عليها، بعد رحيل على إسماعيل ببضع سنوات، الزواج، فقالت له: (الشرع يمنع أن أتزوج اثنين، أنا زوجة على إسماعيل)!!.
التعليقات